شدد عميد الإذاعة في الحزب السوري القومي الاجتماعي إيلي الياس في بيان في ذكرى أنطون سعاده، على أن “فجر الثامن من تموز لم يكن فجراً عادياً، بل انعطافة جذريّة في وجدان الأمة ووعيها الفكريّ والسياسيّ، فمحاكمة أنطون سعاده واستشهاده لم يكونا محاكمة رجل عاديّ أو مؤسس حزب بل كانت – في عمقها الرمزي وبُعدها العمليّ – محاولة لإنهاء فكره القومي، وسحق إجابته على سؤال “مَن جلب على أمتي هذا الويل”، فكان الاغتيال ترجمةً لمسارٍ طويل من الصراع بين مشروع نهضوي سيادي أراده سعاده لأمته، وبين مشاريع التبعية والتجزئة التي أرادها أعداء الداخل والخارج واقعاً دائماً لهذه الأمة”.
وقال: “لقد آمن سعاده بأن لا مكان للجمود في هذه العقيدة، فنحن حركة صراع، فالفعل المؤيَّد بصحة العقيدة هو معيار القيمة الحقيقيّة لنكون أبناء الحياة، مُقدِّمين في طريق عزة الأمة وحياتها كل ما نملك. ومن هنا حدّد سعاده المعيار الحقيقيّ لعظمة الحياة وقيمتها ليس بعدد السنوات، بل بوقفات العز التي نحيا بها، ونخطو بها هذه السنين بفعلٍ يرتقي لمستوى الانتماء، وقفةٌ جَسَدها قبل الاستشهاد: “أنا لا يهمّني كيف أموت بل من أجل ماذا أموت، لا أعدّ السنين التي عشتُها بل الأعمال التي نفّذتها”. وهكذا كان القدوة والعبرة، أقرن القول بالفعل، هذه العبارة تعكس رؤية فلسفيّة قوميّة تتجاوز الذات الفرديّة، وتؤكد ضرورة العطاء والتضحية في سبيل القضية القوميّة التي تعاقدنا معه من أجلها وفي سبيل المبادئ القوميّة الاجتماعيّة التي تعني حياتنا الجديدة، عطاءٌ يعكس عمق الانتماء والوعي الكامل لحقيقة وجودنا “نحن”، عطاء يُسقط الغاية الفرديّة الذاتيّة في سبيل بناء نهضة الأمة لتكون أمة عظيمة في مصاف الأمم المتقدّمة”.
أضاف: “ما بين الثامن من تموز 1949 وما بين الحاضر فإننا اليوم وبعد مرور حوالي ستة وسبعين عاماً، لا تزال الأسباب التي أدّت إلى اغتيال سعاده قائمة في أشكال متعدّدة من الطائفيّة وضياع الهويّة والتشرذُم القوميّ، إلى التبعيّة الاقتصاديّة وفقدان السيادة، والاحتلالات المباشرة وغير المباشرة، كما لا تزال الأمة تواجه التحدّيات الوجوديّة فيما مشاريع الهيمنة تجدُ لها وكلاء في الداخل والخارج. وإن ما يحدث في فلسطين ولبنان والشام والعراق، يجعلنا ندرك أن أزمة الكيانات المصطنعة التي حذّر منها سعاده لم تنته بل تفاقمت، فبين سايكس – بيكو الأمس وخرائط التطبيع والتحالفات المستجدّة اليوم يتأكد بأن المشاريع الاستعماريّة مستمرّة لم تتوقف بل تغيّرت أدواتُها، فبدلاً من الانتداب هناك السيطرة الاقتصاديّة والتبعيّة السياسيّة، وبدلاً من الاحتلال العسكريّ هناك الاختراق الثقافيّ والتطويع الإعلاميّ، والتفتيت الطائفيّ والمذهبيّ الذي يضرب وحدة المجتمع ويعيق دورة الحياة الطبيعيّة”.
وتابع: “لقد بيَّن سعاده مشكلة التجزئة الاجتماعيّة بأشكالها المختلفة، قبليّة وعنصريّة وطائفيّة… في زمن مبكر، ولقد تفاقمت هذه المشكلة وتناقضاتها لدرجة التفسّخ في مجتمعنا واهتزاز مفهوم هويّتنا الوطنيّة القوميّة لصالح الهويّات المتنافرة والمتناقضة، وجعلت من الاستعمار الذي أفرزها وغزاها ورسخها والذي طرح حينها الحمايات الأجنبيّة للأقليّات ذريعة للاستعمار، جعلته يعود اليوم ليطرح مخططاً قديماً جديداً قائماً ليس على إلغاء ساكس – بيكو فقط كترجمة للتجزئة السياسية، بل للانتقال إلى تجزئة المجزأ وتفتيت المفتّت وتمزيق أواصر الوحدة الاجتماعية بين أبناء الأمة الواحدة تمهيداً لفنائها، وأساساً لتمزيق الكيان الى كيانات طائفية ومذهبية وعرقية، في ظل استمرار الحرب الإرهابيّة التي تمارَس على شعبنا في فلسطين وفي غزة خاصة، حرب استئصاليّة تهدّد هوية الأمة، ومحاولات فرض واقع جديد يرافق تقدم هذا العدو الوجوديّ لاحتلال مساحات جديدة في الشام، إلى التوسّع التركيّ في الشمال السوريّ.
وقال: “إن هذا التاريخ، ليس مجرد محطة زمنيّة، بل هو مفصل نضاليّ يُعيد تأكيد ثبات المشروع القوميّ الاجتماعيّ في مواجهة كل محاولات إجهاضه أو تشويهه، وإن كل هذه التحديات، لا تثبت صوابية فكر المؤسس سعاده فقط، بل تجزم بأن هذا الفكر حاجة قوميّة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى لإعادة صياغة مفهوم المصلحة القوميّة العليا، مصلحة لا يكون فيها الصراع العقائديّ وتحالفاتنا على حساب المصلحة القوميّة العليا، مصلحة يكون فيها صراع المبادئ لإقامة النظام الجديد الذي يكفل أعظم مقدار للمجتمع من “الفلاح الروحيّ – الماديّ. والفداء الذي جسّده الزعيم لم يكن وليد لحظة انفعال عابر، بل ذروة الوعي القوميّ، المتجسّد في عقيدة راسخة وضعها وآمن بها خلاصاً للأمة، ونهجاً لمستقبل يليق بها، فكانت الرسالة: “هذه الليلة سيُعدمونني، أما أبناء عقيدتي فسينتصرون، وسيجيء انتصارهم انتقاماً لموتي”، تأكيداً على أن النهضة التي بدأت بفكر سعاده مستمرّة وتعبيراً عن ثقته بأبناء عقيدته بأنهم سيقودون مسيرة الصراع والفداء التي ابتدأها وبأنهم سوف ينتصرون لهذه العقيدة وغايتها”.
وتابع: “رغم كل التحدّيات البنيوية في أمتنا اليوم، حيث تُستباح السيادة وتدجَّن العقول وتهندس الطوائف، ورغم المشاكل الداخلية، بقي الحزب السوري القومي الاجتماعي ثابتاً، حاملاً إرث المعلم سعاده، متقدّماً حركة الصراع في جميع المجالات، مؤكداً أن سعاده كان وما زال، رمزاً للعقل الواعي الحر، والالتزام القوميّ، والموت الذي يصنع الحياة. فحين أُطلقتِ الرصاصاتُ لم تنته القصة، بل استمرّت في وجدان الأمة، وفي نفوس أبنائها ووعيهم وعملهم بقي سعاده حياً يُنادى، بكل مفصلٍ وجوديّ في صراعهم وفكرهم وحركتهم، يستحضرون قيم التضحية التي لا تزال حاضرة في وجدانهم، وفي السياق الأعمق لم يكن أنطون سعاده هو مَن يُحاكَم، بل كان هو مَن يُحاكِم التاريخَ بفكره وعطائه ودمائه، ويصارع الواقع بمشروعه، والشدائد بصلابة إيمانه، فبكلامه ومواقفه أثناء محاكمته وبعبارته التي أطلقها قبل استشهاده: “يا خجل هذه الليلة من التاريخ”، كان ينطق بحكمه على الأمر المفعول المفروض على أمتنا”.
وقال: “أنطون سعاده لم يتنازل لا في محاكمته ولا قبلها، عاد من المنفى وهو يعلم تماماً ما ينتظره، يعلمُ بأنهُ لن يُعطى فرصة الدفاع عن نفسه لأنهم لم يعتبروه فرداً بل حركة لنهضة الحياة، لقد أرادوا اغتياله بسرعة لأنه كان يُربك بطول حياته مشروعهم القصير، لكنه لم يجزع للهروب من المواجهة بل تقدّم بثبات، رافعاً جبينه لا بوجه القضاة فقط، بل باتجاه الأجيال القادمة، وهكذا تحوّلت المحكمة التي حاكمته الى مسرح للجريمة حيث يُحاكَم الرجل، لأن فكرته شكلت الوعي لمشروع يَنقض واقع التجزئة”.
أضاف: “إننا في الحزب السوري القومي الاجتماعي ونحن نحيي هذه الذكرى لا نقف عند حدودها الزمنيّة، بل نزداد يقينا بأن النهضة التي دفع سعاده حياته في سبيلها، ستبقى مشروع خلاص الأمة، وأن الدماء التي روت دروبها، هي أمانة في أعناق القوميين الاجتماعيين، ولنؤكد بأن مسيرة النهضة مستمرّة وأن التحدّيات التي واجهها سعاده والتي ما زالت ماثلة أمامنا سوف نواجهها نحن، لأننا تلاميذ سعاده، لأننا أبناء الحياة، أبناء مدرسة الفداء التي آمن بها حين بشَر قبل استشهاده: “أنا أموت أما حزبي فباقٍ”.
وختم: “اليوم ونحن نقف في حضرة الخلود، كونوا كما أرادكم الزعيم، مؤمنين بعقيدة الحق والخير والجمال. كونوا أبناء إرادة لا تلين، وعزيمةٌ لا تنكسر. استنهضوا إرادته فينا، وجدّدوا قسمكم على نهضته انتماءً وحياةً ومصيراً، فنحن لسنا طارئي الحضور في التاريخ، نحن صنّاعه، لأن فينا القوة التي فعلت وغيّرت وجه التاريخ، وستظل فاعلة لأننا أمناء على هذا الفكر، أمناء على مشروع حياةٍ لأمةٍ بأكملها، أمناء على هذا الفداء، أمناء على مؤسسة الحزب التي أسّسها وأرادها المجسِّد الفعليّ لوحدة العقيدة ووحدة الحركة ووحدة الصراع، تتوحّد من ضمنها إرادتنا القوميّة بحركة نظاميّة مؤيّدة بصحة العقيدة لا تعرف التردّد ولا تُهزم أمام الصعاب، نتجاوز فيها ذواتنا في سبيل مصلحة الأمة، لنكون على قدر المثل العليا للحزب في الحرية، والواجب، والنظام، والقوة”.
