نور علي زريق – في حضورٍ لافت ضمن بودكاست ” وبعدين ” الذي تقدّمه الإعلامية رابعة الزيات قدّمت ورد الخال إطلالة حملت أكثر ممّا قالت وعادت من خلالها إلى الواجهة كاسمٍ لا يُقاس بحضوره الآني بقدر ما يُقاس بتاريخٍ رسم ملامح مرحلة كاملة من الدراما اللبنانية. لم تظهر كضيفة عابرة في حوارٍ جديد بل كصوت يعرف ثقله ويدرك جيداً المسافة التي يتركها غيابه حين يطول. ذلك الهدوء الواثق وتلك الرصانة التي لا تُصنّع جعلا من اللقاء مساحة تُستعاد فيها سيرتها الفنية والإنسانية لا كذكريات متفرّقة، بل كطبقات تتكشّف كلما أوغلت في البوح .
في هذا السياق، بدا حديثها عن الدراما اللبنانية أشبه بمحاولة لتسمية ما لم يُسمَّ بعد وتشريح هادئ لأزمة طويلة الأمد. لم تنظر إلى الأزمة من موقع المظلومية بل من زاوية شاهدة تمتلك خبرة كافية لتحديد نقاط التعثر حين تفقد المهنة إيقاعها الإنتاجي. لم تتحدث عن غيابها كحالة فردية بل عن غياب صناعة بأكملها . فهي ترى أن عملًا واحدًا في السنة مهما كان ناجحًا لا يكفي لاحتضان طاقات ممثلين صنعوا حضورًا ثابتًا في الاعمال اللبنانية . وأوضحت أن المشكلة ليست في الفنانين الذين ينتظرون فرصًا لا تأتي بل في بيئة إنتاجية متراجعة لا تمتلك وتيرة كافية للحفاظ على استمرار النجوم أو تسويقهم للعالم العربي. كان في عباراتها مزيج من الحزن الهادئ والواقعية الصارمة ومقاربة للدراما كما هي لا كما يُراد لها أن تكون .
وعلى خطٍّ موازٍ، بدا شغفها بالمهنة محورًا تدور حوله طبقات شخصيتها. لم تتحدث عن التمثيل كمهنة فحسب بل كحالة وجودية تمنحها الإيقاع والاستمرارية. قالت إن الكواليس خلف الكاميرا هي المكان الذي تستعيد فيه نفسها وأن بعدها عن العمل يجعل شيئًا في داخلها يبهت. بدا وكأن المهنة ليست خيارًا بل ضرورة للحفاظ على نشاطها وارتباطها بذاتها وحتى حين بدا حديثها هادئًا، كان في نبرة صوتها شرارة شغف لا تُخطئها الأذن، شرارة تقول إن الانقطاع عن العمل ليس استراحة بل غياب يُثقّل الروح ويترك أثره في كل زاوية من وجودها .
وتزامناً مع ذلك، تجلّى الجانب الإنساني عند ورد على مساحة أعمق. خسارة والدتها القديرة مها بيرقدار، بما حملته من حساسية وفنّ ودفء، بدا كجرح لا يزال طريّاً، وكندبة تلازم كل تفاصيل يومها. تحدّثت عن الغياب كجزء من كيانها لا مجرد ذكرى. كما أشار حديثها إلى أخيها يوسف كامتداد وجداني لبيتٍ بقي جزء منه حاضرًا وجزء منه غائبًا. وسط هذه الأحداث، بدا زوجها باسم نقطة ارتكاز تمنحها توازنًا وتساعدها على عبور المراحل الصعبة أمام محطات فقدٍ لا يمكن التخفيف من وطأتها .
في المقابل ، حملت مواقفها من الحرب والسلام طبقة إضافية من النضج. لم تقدّم خطاباً جاهزاً،لم تذهب نحو صدام يستهلك الأسماء قبل الأفكار و لم تتورّط في الشعارات ولم تضع نفسها حيث لا تريد أن تكون بل اكتفت بتوصيف اللحظة اللبنانية كمساحة ملتبسة بحيث يصبح فيها كلّ موقف مادّة لتأويلٍ أو تصفية حساب . أقرب ما قالت إنها مع وطنها فقط، وأنّ أي كلمة تُقال اليوم تصبح مادّة تُستخدم خارج مقاصدها. تحدّثت عن العدو من موقع وطني وعن السلام من موقع واقعي يدرك أن الفكرة أوسع من الشعارات. بدا وكأنها تذكّر بأن النجاة في هذا البلد ليست موقفاً سياسياً، بل محاولة دائمة للابتعاد عن حفرة الاستقطاب التي تبتلع كل رأي مهما كان رصيناً. كانت عباراتها قصيرة، لكنها محمّلة بذلك المزيج النادر من الحكمة والحذر، المزيج الذي يمنح الكلام ثقله من دون أن يجرّه إلى العاصفة.
وبالعودة إلى الصورة العامة، تتشكّل ورد الخال كما بدت في هذه المقابلة امرأة تقف على تخوم الفن والحياة والسياسة، من دون أن تسمح لأيّ منها أن يبتلع الآخر. تحافظ على نبرة منخفضة لكنها واضحة، على مسافة مدروسة من كل شيء وعلى وضوح يجعل كلامها يُقرأ على طبقتين طبقة ظاهرها هدوء وطبقة باطنها صراحة عميقة لا تحتاج إلى صراخ. هي نجمة تعرف كيف تُخفّف الضوء حين تريد وتعيد إضاءته حين تشعر أنّ اللحظة تحتمل قولاً جديداً.
ختاماً ، جاءت تصريحات ورد الخال كخريطة صوتية لامرأة اجتازت ما يكفي من التجارب لتعرف ان الحضور ليس صخباً وان الغياب ليس انسحاباً وان المهنة التي أعطتها تاريخها تستحق أن تُستعاد في زمن ينسى قيمة ما يملك. وفي بلدٍ يتقلّب فوق خطوط النار، بدت ورد بكل رصانتها أقرب إلى شهادة على عصرٍ مضطرب وإلى صوتٍ يختار الحقيقة بهدوء ويقولها بقدر ما يلزم ويترك ما تبقّى للقرّاء أن يسمعوه بين السطور .



































