نور علي زريق – في بودكاست ” وبعدين” مع الإعلامية رابعة الزيات، لم يكن النجم يوسف الخال ضيفًا عابرًا على مقعد البوح بدا كأنه يعيد تعريف المقابلة بوصفها مساحة اختبار بين الفكر والصوت بين ما يُقال وما يُقصَد. جلس أمام الكاميرا كما هو هادئ الملامح لكن كلماته تتوهج بما يشبه الفلسفة اليومية التي لا تُصاغ في الكتب بل في التجربة.
منذ اللحظة الأولى، يتحدث النجم يوسف الخال من موقع واثق مدرك لوزنه في الوسط الفني لكنه لا يستقوي به، رافضًا أي تواطؤ أو مجاملة بحيث يرى الفن بصفته مرآة للإنسان لا صناعة للتسلية، ويعطي موقفه صورة عن الدراما اللبنانية التي بحسب قوله لم تفقد قيمتها لأنها تراجعت فنيًا، بل لأنها استسلمت لمعادلات السوق حتى باتت الكلمة الصادقة تُعامل كترف. وكأنه يُبدي في حديثه الحنين إلى زمن كان فيه الممثل يقف على الخشبة ليقول ما يؤمن به لا ما يُملى عليه.
أما أسلوبه في الحوار فقد جمع بين بساطة التعبير وعمق الفكرة. لم يهاجم أحدًا بل وصف منظومة فنية مأزومة في روحها تُدار كما لو كانت شركة لا بيت فن، حيث يتحكم عدد محدود من الأشخاص بمصير المئات فتصبح الموهبة خيارًا ثانويًا أمام الولاء والصفقات. هذه التصريحات تعكس وجهة نظر الخال تجاه الوسط الفني، كفنان يرفض أن يتحول إلى مجرد ترس في آلة، مبرزًا تمسّكه بقيمته الفنية وموقفه الشخصي داخل المشهد الفني.
وفي سياق مشابه، أبدى الخال انزعاجه من الطريقة التي تُقتطع بها تصريحاته وتُعاد صياغتها بما يحرّف معناها، فتتحول كلماته إلى مادة للجدل والتسخيف بدل أن تعكس صواب الفكرة. ويرى أن من يستغلون هذا الأسلوب لتسيّيس حديثه أو تحويله إلى أداة للتشهير يجعلون من الصعب الحفاظ على صدق التعبير مؤكدًا أن هذا الواقع الرقمي جعل من الصعب اليوم طرح أفكار أو نقاشات جادة.
وفي سياق اخر ، يقترب يوسف الخال من المساحات التي يتجنبها كثيرون، فيتحدث عن لبنان، لا بوصفه وطنًا بالمعنى الشكلي بل كفكرة لم تكتمل، اذ قال : “لبنان فكرة جميلة لن تتحقق”، وكأنّه يصف وطنًا يراه بعين الشاعر لا المواطن. فالوطن بالنسبة اليه ليس شعارًا بل مشهد من تفاصيل صغيرة ، رائحة الأرض، البيوت التي رمّدتها الحروب، والذاكرة التي لم تعد تعرف أين تنتمي. هذه ليست كلمات سياسية بل جملة وجودية عن بلدٍ تاه بين ما كان وما يجب أن يكون.
وحين يصل الحديث إلى الجنوب، يبلغ الحوار لحظته الأصدق لا يرفع يوسف الخال نبرة صوته، لكنه يقول ما يكفي ليدخل الصمت في القلوب. يتحدث عن الجنوب كما يتحدث عن جرحٍ في الجسد لا يمكن تجاهله ولا تبريره. في زمنٍ التزم فيه معظم الفنانين الصمت، بدا صوته أشبه بواجبٍ أخلاقي أكثر منه موقفًا سياسيًا. الكلمة عنده ليست إعلانًا بل إضاءة. حين يقول إن من يتألم في الجنوب هو جزء من هذا البلد، لا يعلن انحيازًا، بل يعيد تعريف الانتماء كحسٍّ إنساني وطني لا يحتاج إلى إذن من أحد. ففي جملته البسيطة، يظهر عمق الإنسان الذي ما زال يؤمن أن الوطنية تبدأ من الإحساس لا من الشعارات.
على صعيد آخر برز دور رابعة الزيات في إدارة الحوار، كمنسّقة بين الهدوء والحدّة، بين الفكرة والانفعال. منحت ضيفها المساحة التي يحتاجها ليُفكّر بصوتٍ عالٍ، لكنها لم تترك المقابلة تنفلت نحو الجدل. كانت حاضرة بحكمة الإعلامية التي تعرف متى تُصغي، ومتى تضع النقطة في مكانها مما جعل من اللقاء مساحة لا للجدال، بل للفهم ، وهذا في الإعلام تميّزٌ نادر.
أخيراً ، لم يخرج يوسف الخال ليبرّر نفسه، بل ليُعلن بطريقة غير مباشرة أن الفنان ما زال قادرًا على أن يكون ضميرًا حيّاً إذا اختار أن يتكلم. لم يتجمّل بل اكتفى بأن يكون صادقًا، وهذه وحدها جرأة لا يتقنها كثيرون. في زمنٍ يتواطأ فيه الصمت مع الخوف، ترك كلمته تمشي على مهل وتركنا نفكر بعدها طويلاً: ربما الفن، كما يراه ليس ما نراه على الشاشة، بل ما يُقال حين يخاف الآخرون الكلام .
