Les actualités les plus importantes et les plus récentes du monde en français

بمناسبة ولادة الرسول صلى الله عليه وآله وهجرته ربيع زاهر بعد شتاء قارص : بقلم السيد صادق الموسوي

 

 

بمناسبة ولادة الرسول صلى الله عليه وآله وهجرته
ربيع زاهر بعد شتاء قارص
كلما حلّ شهر ربيع الأول من كل عام نتذكر حدثين مهمين غيّرا مسار تاريخ البشرية كلها؛ فالأول كانت ولادة الرسول صلى الله عليه واله بمكة المكرمة في السابع عشر منه وثاني الحدثين هجرته في الأول منه من مكة المكرمة إلى ” يثرب ” التي تبركت بعد ذلك باسم النبي وغلب عليها إسم ” المدينة ” المنورة.
لأجل أن نعرف عظمة ما قدمه المولود المبارك المسمى محمداً للإنسانية يجب أن نتعرف على الظروف التي كانت تعيش فيها مجتمعات البشرية كلها وعلى وجه الخصوص المجتمع العربي، حيث يوجز القرآن الكريم مهمة الرسول في آية واحدة: ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ).
فالواقع الأول كانت الأمية التي كانت تسود عامة الناس، ولم يكن يجيد القراءة والكتابة سوى عدد قليل جداً من النخبة في ذلك المجتمع، وهؤلاء كانوا يبيّنون للعامة ما يحلو لهم ويكتمون عنهم ما يشاؤون، وبذلك يتحكمون بعقول الناس ويتلاعبون بعواطفهم، وإلى هذا الواقع المزري يشير الله سبحانه بقوله: ( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلاّ النار )، في وقت كانت المسؤولية الفطرية الإنسانية لمن يجيدون القراءة والكتابة توجب تعميم الثقافة وتعليم الناس ورفع مستوى الثقافة والوعي فيهم، وهذا ما تشير إليه الآية؛ ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيّنُنّه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون ).
وفي ظل هذا الواقع ومن بين هذا المجتمع الأمي والمتخلف بعث الله أحد أفراد هذه البيئة ( رسولاً ) والذي هو ( منهم ) أي من الأمّيين وذلك لتبليغ رسالته، والخطاب الأول له من السماء كان: ( إقرأ ).
وحتى لا يقول أحد بأن النبي صلى الله عليه وآله كان استثناءً في المجتمع الأمي الذي لا يجيد القراءة والكتابة فإن القرآن الكريم يوضح حقيقة حال محمد صلى الله عليه واله قبل أن يبعثه الله عزّ وجلّ بالرسالة بقوله: ( ما كنت تتلو من قبله ولا تخطّه بيمينك إذاً لارتاب المُبطلون ).
ففي الجملة الأولى من الآية الكريمة التي أسلفنا تأتي ( في الأميين ) ومن هنا تبدأ المهمة الصعبة وشبه المستحيلة وهي إيقاظ هؤلاء الناس وتوعيتهم وفتح الآفاق أمام أعينهم وذلك من خلال بيان الحقائق ( الآيات ) والتي يصرّ محتكرو المعرفة على منع العامة من الإطلاع عليها والتنعم بها، فكانت الوظيفة الأولى للمبعوث من قبل الله هو: ( يتلو عليهم آياته )، ولذلك نرى أن أكثر من قاوموا الرسالة المحمدية بالخصوص كان أولئك الذين يلقّبون بـ ” أشراف قريش “، والذين كانوا يمسكون برقاب الناس ويفرضون عليهم العيش الذليل بالتواطؤ مع الذين يحتكرون المعرفة ويجيدون القراءة والكتابة، ويملكون الأموال التي حصلوا عليها عبر استغباء الناس بل واستحمارهم، فالناس كانوا يبحثون في جبال مكة الجرداء والصحاري والبيداء عن بعض الحطب والأشواك ليبيعوه ويحصلوا بثمن ذلك على تمرات يسدّون بها جوعهم، فيما ” الصناديد ” يصيبهم التخمة من كثرة ما يأكلون من ألوان الطعام وأنواع الشراب، والناس العاديون لا يجدون ثياباً يسترون بها عوراتهم فيما ” الأشراف ” يلبسون ثياب الحرير والديباج ويتبخترون بها أمام الناس.
والأخطر من ذلك أن محتكري المعرفة والقيّمين على الثقافة نشروا بين المجتمع أمر احتقار جنس المرأة حتى بلغ بعموم الناس الشعور بالعار تجاههن وتكريس ” وأد البنات ” في أبشع صوره، حيث يبين الله ذلك الواقع المخزي بقوله: ( واذا بُشّر أحدهم بالأنثى ظلّ وجهه مسودّاً وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بُشّر به أيُمسكه على هون أم يدسّه في التراب ألا ساء ما يحكمون )، أما المترفين فإنهم كانوا يتلذذون بالنساء ويتسابقون إلى الإستمتاع بالبغايا، بل كانوا يديرون أسواق الغانيات والعاهرات وبستدرون من وراء المتاجرة بهن المال الكثير، بل ويقومون بتبادل الزوجات فيما بينهم، بل كان الرجل يضع زوجته تحت تصرف صديقه وضيفه من دون أي شعور بالغيرة.
ولقد تجاوز العرب ” وأد البنات ” إلى قتل الأولاد عموماً إذا حلّت بالرجل ضائقة مالية، حتى أنزل الله سبحانه: ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم، إن قتلهم كان خِطئاً كبيراً ).
إن مواجهة هذا الواقع المتجذر في عمق ثقافة المجتمع والثابت في العقول والإنقلاب عليه وتغييره ليس بالأمر السهل أبداً، خاصة أن رسول الله صلى الله عليه واله كان يفتقد الذكور ولم يبقَ له من صلبه إلاّ ابنته الوحيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، ولذلك كان أعداؤه يتهكمون به ويصفونه بـ ” الأبتر “.
إذن تزكية هذه النفوس من هذه الأدران العالقة بها هو في غاية الصعوبة، وتبديل ثقافة ” قتل الأولاد ” و ” وأد البنات ” و ( يتوارى من القوم من سوء ما بُشّر به ) بثقافة ” هي بهجة فلبي ” و ” هي روحي التي بين جنبيّ ” وهي ” بضعة مني، فمن آذاها فقد آذاني، من آذاني فقد آذى الله، ومن أحبّها فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله ” و أخيراً : ” يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها “، بل وانتظار أمر السماء للموافقة على من بستحق الزواج بها، بل والتأكيد على وجوب الورود إلى الجنة من تحت أقدام الأمهات؛ وهناك الكثير من الأوصاف الجميلة الواردة في الأحاديث لا مجال لتعدادها كلها هنا.
أما العلاقات الإجتماعية فلا أسوأ من ذلك، حيث يوجز الله سبحانه ذلك في كتابه: ( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بينكم … وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها )، لكن أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام يصف وبأدق التفاصيل حال العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه واله بقوله: ” إن الله بعث محمداً (صلى الله عليه وآله) نذيراً للعالمين، وأميناً على التنزيل، ومهيمناً على المرسلين؛ وأنتم معاشر العرب يومئذ في شرّ حال وفي شرّ دار؛ مُتنخّون بين حجارة خُشن وحيّات صُمّ، وأوثان مضلّة، وشوك مبثوث في البلاد؛ تشربون الماء الكَدِر وتأكلون الطعام الجَشِب، وتسفكون دماءكم، وتقتلون أولادكم، وتقطعون أرحامكم، ويسبي بعضكم بعضاً، وتأكلون أموالكم بينكم بالباطل؛ يغذو أحدكم كلبه، ويقتل وُلده، ويُغير على غيره فيرجع وقد أُغير عليه؛ الأصنام فيكم منصوبة والآثام بكم معصوبة، وسُبُلكم خائفة؛ تأكلون العِلّهِز والهَبيد والميتة والدم؛ فمنّ الله عزّ وجلّ عليكم بمحمد صلى الله عليه واله فبعثه إليكم رسولاً من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عَنِتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم “.
ثم يأتي دور ( ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة )، وفرق كبير بين الإقلاع عن سلوك وتركه وبين تزكية النفس تجاهه، حيث يمكن للإنسان ترك أمر مكرهاً وانصياعاً لقانون وضعته سلطة، لكن تزكية النفس هي أن تترك عملاً وأنت مقتنع في قلبك بما تفعل، وموطّن نفسك على كره ما كنت تفعله من قبل، ثم يأتي دور التعليم الذي يزيل غشاوة الجهل عن العيون، ويجعل الناس يعلمون ما يفعلون ويطلعون على حقيقة ما يبيّته المتآمرون ضدهم، ومن خلال الولوج في بحر العلم والتعمق في حقائق الكون وبالإستعانه بالله سبحانه يصل المؤمن إلى مرحلة ( الحكمة ) ويكون رأيه سديداً وعمله حكيماً ( ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً )، وعند الخروج من الأمّية، وتزكية النفس من الأدران، والتنعم بنعمة العلم، والفوز بكنوز الحكمة، يشعر المجتمع بأكمله والناس أجمعون أنهم ( كانوا من قبل لفي صلال مبين ).
إن مولد الرسول محمد صلى الله عليه واله كان نقطة البداية لنجاة الأمة كما كانت ولادة موسى الكليم مقدمة لمواجهة فرعون، ومبعثه كان مبتدأ نزول رحمة الله على العباد، وحين شمول لطف الله تعالى ورب الخلائق للعالمين، ونزول الوحي عليه كان شروع هداية البشرية نحو السعادة والانعتاق من الآصار والتحرر من أغلال العبودية التي قيّدت حركة الإنسان نحو الكمال.
ثم إن النبي محمد صلى الله عليه وآله كان دوماً حريصاً على هداية كل فرد إلى الصراط المستقيم، حتى قال له الله عزّ وجلّ: ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين )، بل كان في كل حال يرى في نفسه التقصير إذا لم يوفق لهداية شخص حتى قال له الله سبحانه: ( ولعلك باخع نفسك على أن لا يكونوا مؤمنين )، بل كان دوماً يأمل هداية الضالين ولو كانوا من المعاندين حتى خاطبه الله تعالى بفوله: ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم )، وكانت رسالته التي لم يتوانَ لحظة عن العمل من أجلها أن يضع عن أسرى الجهل وعبدة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع وأتباع الطغاة والمترفين ( إصرهم والأغلال التي كانت عليهم )، وفي سبيل ذلك تحمل أشد أنواع الأذى من قومه حتى لوّح الله بما فعله مع بني اسرائيل لما آذوا موسى الكليم بقوله: ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرّأه الله مما قالوا )، ولما أن استمروا في التطاول والأذى على الرسول صلى الله عليه واله أعلن الله بكل صراحة: ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً مهيناً ).
لكن النبي الذي بُعث رحمة للعالمين كان على الدوام يقول: ” اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون “، وهو في آخر لحظات حياته وقبل أن يسلّم الروح طلب من الله الشفاعة لأهل المعاصي من أمته يوم الدين، ولما ضمن ذلك بوعد الله: ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) عند ذاك أذن لملك الموت أن يقبض روحه ويغادر الدنيا إلى لقاء ربه.
فأي مولود له مثل هذه البركة للإنسانية ؟.
وأي مبعوث له مثل هذا الفضل في نجاة البشرية ؟.
وأي نبي له مثل هذا الدور في إنقاذ القيم الأخلاقية ؟.
وأي رسول له مثل هذا الصبر في سبيل تحقيق العدالة الإنسانية ؟.
فسلام له منّا أبداً دائماً حتى نلقاه عند ربه، ونتشرف بشفاعته، ونهنأ بجواره، ونخلد في النعيم ببركاته.
السيد صادق الموسوي