اقيم احتفال تكريمي للعلامة الراحل الأباتي جبرايل القرداحي، برعاية البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، وبدعوة من الرئيس العام للرهبانية المارونية المريمية الاباتي ادمون وبلدية فيطرون، في باحة دير مار ضومط – فيطرون، حضره النائب شوقي دكاش، قائمقام كسروان بالإنابة ستريدا نبهان، رئيس اتحاد بلديات كسروان الفتوح الياس بعينو، رئيسة المؤسسة المارونية للانتشار روز شويري، الوزيران السابقان جورج قرداحي وجان ولويس قرداحي، رئيس بلدية فيطرون المهندس رامي رزق وفاعليات.
النشيد الوطني بداية، فكلمة عريف الاحتفال جوزف مغامس، ثم كلمة ترحيبية لرئيس دير مار ضومط الاب المدبر جان مارون الهاشم اشاد فيها بمزايا المكرم، كما تحدث عن تأسيس الدير والمدرسة فيه، وقال:” ان التاريخ هنا، ومن لا تاريخ له وليس وفيا لتاريخه ومن سبقوه فلا حاضر مشرق له ومستقبله لا يعد بالخير”.
رزق
بدوره تحدث الأباتي رزق وقال:” نلتقي اليوم، في هذا الحفل المبارك، لنكرم علما من أعلام الفكر والرهبنة، سخر حياته للعلم والإيمان، وجعل من فكره سراجا على منارة الأجيال، ومن كتاباته شهادة حية على التزامه بالإنسانية الواعية. إن الأباتي القرداحي، لم يكن رئيسا عاما على رهبانيته، لكنه نال رتبة الأباتية من البطريرك بولس مسعد، تقديرا لإنجازاته في الرهبانية ومن أجل خدمة وخير الكنيسة. وتكريمه اليوم ليس تكريما لشخصه فحسب، بل هو تكريم المسيرة طويلة من رجالات كبار قدموا حياتهم من أجل الحقيقة والمعرفة والقداسة. هؤلاء الرجال يجسدون صورة الرهبانية المارونية المريمية التي لم تتوقف عن تقديم شهادة حية، إن في الإيمان وإن في العلم والتربية”.
اضاف:”إن الرهبانية المارونية المريمية التي أفتخر أن أحمل اسمها، نشأت برغبة مؤسسين عظماء، أناروا طريق البيعة من حبهم لله وسعيهم الدؤوب في رقي الإنسانية. فها المطران عبد الله قراعلي ابن العائلة الغنية يتجرد من غناه المادي ليغتني بالكلمة وبالمشورات الإنجيلية، وها العلامة جرمانوس فرحات يتفوق ويشتهر في العلم والأدب والوعظ والفضل والفضيلة، حتى دعي بحق : أبا اللغة العربية ورائدها العظيم. وها الأباتي العلامة يوسف السمعاني الكبير، صاحب المكتبة الشرقية Biblioteca Orientalis” يطلق حركة الاستشراق، ويعرف الغرب على الشرق، والشرق على الغرب. أما الأباتي بطرس فهد فقد أغنى المكتبات بما كتبه عن تاريخ الرهبانية والطائفة المارونية والسبحة تكر، حاملة أسماء الكثيرين من أبناء هذه الرهبانية الذين خدموا في الرسالات وعلموا في الحياة، وساسوا ودبروا في مجالات كثيرة، وخافوا على خلاص النفوس وكانت صلواتهم مع مساعيهم أكاليل رجاء أينما حلوا، حتى نصل اليوم، إلى غبطة أبينا البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي. ولا يسعنا إلا أن نرفع التحية الصادقة والإجلال الكبير لغبطتكم. أنتم الراعي الصالح الذي يحمل هم الكنيسة المارونية ورسالتها في لبنان والعالم، بصوت نبوي يصدح بالحق، وبقلب أبوي لا يعرف إلا العطاء. أنتم النور الذي يرتفع ليضيء مسار اللبنانيين في الحق والخير”.
تابع:”لقد كنتم ولا تزالون حافظين للكنز ومدافعين عن الثقافة الإنسانية والإيمانية. أنتم صوت الحق والضمير، الحامل الشجاع لقيم الكنيسة المارونية في لبنان والعالم، الراعي الذي يناضل لنهضة شعبه، والمدافع عن وحدة لبنان، وزارع الرجاء الأول في نفوس أبناء كنيسته. ولن ننتظر المستقبل لنشكركم ونكرمكم، لأنكم محطة تكريم يومية وصلاة شكر لا تنتهي”.
وختم :”اليوم يا صاحب الغبطة بطريركنا الغالي، أردنا بتكريم العلامة الأباتي جبرايل القرداحي أن نكرم عظماء رهبانيتنا جميعا المذكورين والمنسيين، ولكم يا أبانا جزيل الشكر والتقدير. مرحبا بكم جميعا، ومرحبا بكم يا صاحب الغبطة، أنتم تاج هذا اللقاء، وبهاء هذه المناسبة، وشهادة حية على استمرار الرسالة التي بدأها آباؤنا العظماء. نرجو لهذا اللقاء أن يكون وفاء لمسيرة الأباتي جبرايل القرداحي، ولرسالة تقليدية تحمل مفتاح الغد الأفضل”.
رئيس البلدية
من جهته قال رئيس البلدية المهندس:” تفتح اليوم بلدتنا الحبيبة فيطرون، قلبها قبل ساحاتها، لاحتضان مناسبة مميزة، وتكريم قامة علمية استثنائية من ابنائها تركت بصمتها في ارث وطننا التاريخي والديني والثقافي. انه العلامة الراحل الاباتي جبرائيل القرداحي ابن هذه البلدة الحبيبة، واضع معجم “اللباب ” باللغتين السريانية والعربية والمرجع القيم في اللغات الشرقية، مؤلف كتب المناهج والاحكام ومعاني البيان في اللغات السريانية والإيطالية والعربية”.
واشار إلى ان “تكريم العلامة جبرايل القرداحي ليس مجرد مبادرة وحسب، انما هو تأكيد أن المعرفة هي رسالة وأن الإيمان هو فعل رجاء. فابن البلدة الذي صدق مع نفسه وآمن بربه وأخلص لوطنه، تحول إلى قدوة تلهم وتجمع. بصمت الواثقين عمل الأباتي قرداحي، وبجد لا يعرف المنة ولا التعب، خدم الكنيسة بإيمان وغاص في أعماق اللغة السريانية فأبدع وترك لنا إرثا غنيا متن علاقتنا بلغة السيد المسيح والأنبياء والأجداد”.
ولفت إلى ان “دوره البارز في النهضة اللغوية رفع شأن اللغتين السريانية والعربية ، فصار حارسا لذاكرة لغتنا وصلواتنا. لم يتوقف دوره عند هذا الحد بل تجاوزه ليكون له بصمة خاصة في تاريخ الكنيسة، إذ بنى على قطعة أرض شيشيليانو في روما بناء مماثلا لدير الحصن في فيطرون مجسدا هناك صورة بلدته وأمانة أبنائها في أرض الإغتراب”.
وقال:” أما العزيمة والإرادة الصلبة اللتان تسلح بهما العلامة فلقد شكلا الركيزة الأساسية لأعماله. وهنا لا بد من سرد الحادثة المفصلية في تاريخ بحثه، إذ طلب منه أحد المستشرقين يوما تفسير عبارة بالسريانية ولأنه اعتذر عن الإجابة لعدم معرفته للغة السريانية، نهره المستشرق بتهكم قائلا له : كيف لك أن تجيد اللغات الأجنبية ولا تجيد لغة السيد المسيح والأنبياء والأجداد. ومنذ ذلك الوقت انكب القرداحي على التعمق بهذه اللغة ليصبح مرجعها الأهم ويضعها في خدمة العالم أجمع”.
وتوجه إلى البطريرك الراعي بالقول:”من ثباتكم تعلمنا الصمود اذا ما اشتدت الرياح، نلوي ولكن لا ننكسر. ومن حكمتكم تعلمنا التمييز بين الأصوات إذا ما تداخلت. ومن جرأتكم لم نتعلم إلا رفع صوت الحق مهما علا التهديد. محبتنا لغبطتكم لا متناهية، هي محبة تغذت ببذور الطاعة والاحترام والثقة التي مهدت السبل أمام تعاون مثمر في خدمة الإنسان. أنتم إلى جانبنا في الجبل والساحل والداخل والاغتراب، تحملون هم الناس ووجعهم وأحلام أولادهم، فلكم من فيطرون شكر من القلب، ودعاء بسنين عديدة من الصحة والقداسة.نحن نرى فيكم علامة رجاء، ونلتمس بركتكم لضيعتنا وأهلها ونثمن عاليا دوركم الفاعل في حياة وطننا لبنان الذي نتمنى أن ينهض بإرادة أبنائه، وأن تستقيم مؤسساته، وأن يسود العدل والسلام وتبقى أبواب كنيستنا مفتوحة لكل متألم وتائه ومحتاج”.
والى شباب فيطرون، ختم قائلا:”اقتدوا بسيرة ومسيرة العلامة القرداحي وبعزيمته على التعلم، حولوا محبة بلدتكم الى مشروع ملموس. ابقوا هنا جذورا، وكونوا في العالم أجنحة، وعودوا دائما إلى هذه الساحة التي تحفظ أسماءكم وابتساماتكم”.
قرداحي
كلمة العائلة، ألقاها الوزير السابق جورج قرداحي الذي قال:” باسمي – واسم عائلتي وأهلي وآبائي وأجدادي ، أتقدم منكم ببالغ الشكر على حضوركم معنا اليوم، هذا الاحتفال المميز، الذي نكرم فيه راهبا جليلا ، وعلامة كبيرا وابنا بارا لهذه البلدة الجميلة ، وللرهبنة المريمية الكريمة، قدس الأباتي جبرايل القرداحي”.
اضاف:”هذا ولد الأباتي جبرايل القرداحي، في هذه البلدة التي تحمل اسما سريانيا : فيطرون ومعناه باللغة العربية – الصخر البهي. الانسان ابن الجغرافيا ، كما يقول ابن خلدون . وجغرافيا ضيعتنا صخور وصخور تحرس الزمن هنا منذ آلاف السنين. بين صخورها، ووعورة دروب، وقساوة طقسها ، تربى جبرايل الطفل، وجبرايل الفتى ولعله، من صلابة هذه الصخور اكتسب صلابة الارادة والعزيمة والطموح”.
تابع:” كان يكفي، عندما كان يزال أخا ، في دير مار انطونيوس بروما ، أن يلتقي صدفة ذلك المستشرق الإيطالي الذي سخر منه وأنبه لأنه لم يتمكن من ان يشرح له بيتا من شعر القديس افرام السرياني، كان يكفي أن تحصل معه تلك الحادثة حتى تتقردح في داخله عزة النفس و يعقد العزم على الانتقام لكرامته، و ينكب على التخصص في اللغة السريانية ، ويغوص في أعماق بحورها، الأدبية واللغوية ، ويتحول فيما بعد واحدا من اكبر المراجع في تاريخ هذه اللغة العظيمة”.
واعلن ان “جبرايل القرداحي، ترك كنوزا ، لا تحصى في اللغة السريانية، من قواعد النحو إلى الأدب إلى البحث والشرح، وانكب في خلال خمسة عشرة سنة، على وضع معجم اللباب، الذي يعتبر موسوعة لغوية شاملة تجمع بين اللغتين السريانية والعربية ، مع مقارنات دقيقة في المعاني والتعابير والاشتقاقات ، ويعتبر هذا المعجم قيمة تراثية كبيرة ، لأنه يحفظ لنا جانبا مهما من اللغة السريانية التي شكلت رافدا أساسيا للثقافة المشرقية”.
وختم:”كبار العلماء والباحثين الذين عاصروه . من شرقيين وغربين، أثنوا على أعماله العظيمة ، وعلى عبقريته الفذه وهنالك أقوال وشهادات كثيرة أوردها قدس الأباني بطرس فهد في كتابه عن جبرايل القرداحي ، ولكن ما استوقفني خلال قراءتي تلك الشهادات هو مدحهم لشخصيته الجميلة ليس فقط على مستوى العلم والمعرفة والثقافة، ولكن على مستوى الأخلاق، والمزايا الانسانية، والتواضع والسلوك الكهنوتي المتسم بالعفاف والوفاء لإيمانه وطائفته، ورهبنته ووطنه”.
الراعي
اما الراعي فقال:”يسعدني أن أشارككم اليوم في هذا الاحتفال المبارك الذي يرفع من جديد اسما مميزا من تاريخنا الروحي والعلمي، هو العلامة الأباتي جبرائيل القرداحي، الراهب الماروني المريمي، الذي عاش بين ١٨٤٨ و١٩٣١، وترك لنا إرثا يفيض بالعلم والمؤلفات والرسالة. إن تكريمه اليوم هو استدعاء لذاكرة حية تضيء حاضرنا وتوجه مستقبلنا. فنحن أمام رجل، لم تقتصر رسالته على جدران ديره، بل عبرت إلى فضاءات المعرفة والكنيسة والوطن، لتعلن أن العلم إذا لم يقترن بالإيمان يذبل، وأن الإيمان إذا لم يتجسد في ثقافة حية يبقى عقيما”.
واشار الى انه “إبن بلدة فيطرون العزيزة، وسليل عائلة القرداحي المعروفة بتراثها الروحي والزمني والأدبي، دخل الرهبانية المارونية المريمية سنة ١٨٦٢، فكان أحد أبنائها الأوفياء الذين جمعوا بين النسك والعلم، وبين الصلاة وخدمة الفكر. في روما أكمل دراسته وتعمق في العلوم واللغات، وأعطي أن يكون كاهنا وأستاذا، وارتقى من منبر التعليم ليصبح معلما للأجيال وحارسا لذاكرة الكنيسة. كان رجل إيمان ورسالة. خدم الكنيسة، وأحيا تراثها السرياني، وأثبت أن الكلمة المصلاة في الليتورجيا هي عينها الكلمة المدونة في المخطوطات والكتب. فأحيا ذاكرة الكنيسة وأعاد إليها لغتها الأم، لغة الأجداد والقديسين، وأثبت أن السريانية ليست لغة الماضي، بل لغة الإيمان الحي”.
اضاف:”يترك لنا العلامة الأباتي جبرايل القرداحي مؤلفات فريدة في قيمتها وعظمتها نذكر منها ستة من أصل عشرة هي:
الكنز الثمين في صناعة شعر السريان” (1875) وقد ضمنه حقيقة الشعر السرياني وأوزانه وأنواعه.
الأحكام في صرف السريانية ونحوها وشعرها (1879) مؤلف من أربعة أجزاء.
المناهج في النحو والمعاني عند السريان (1903).
إحكام الأحكام في علم التصريف عند السريان (1924).
تحفة البيان وهو كتاب قواعد عربي إيطالي.
قاموس اللباب باللغتين العربية والسريانية، وهو جوهرة التاج في عطائه الثقافي والعلمي والفكري. وهو بجزئين مطبوع في بيروت ما بين 1887 و 1891″.
واشار إلى ان “المكرم لم يكتف بالكتابة بل مثل لبنان في محافل علمية كبرى، وشارك في مؤتمرات في أوروبا وسويسرا، متحدثا ومدافعا عن السريان وتاريخهم وحضارتهم، فكان شاهدا بليغا للبنان الرسالة. وقد اعترف به كبار علماء عصره، وقال فيه أحد المستشرقين الألمان (الشهير تيودور نولدكه) الذي قال فيه: من الشرق إلى الغرب، لم يعرف الغرب عالما أعظم من الأباتي جبرايل القرداحي وهو بعد حي. هذه الشهادة وحدها تكفي لتجعل من تكريمه اليوم واجبا وطنيا وكنسيا، بل واجب وفاء للبنان بأسره”.
ورأى ان “الأباتي جبرايل القرداحي هو البرهان الساطع على أن الرهبان الموارنة لم يحفظوا فقط الصلاة والإيمان، بل صانوا اللغة والثقافة، وأغنوا التراث الذي نعتز به اليوم. وفتحوا للبنان أبواب الريادة العلمية والثقافية. إن تكريمه اليوم هو تكريم للرهبانية المارونية المريمية التي أنجبته، وللكنيسة التي خدمها، وللبنان الذي حمل اسمه عاليا في المحافل. وهو تذكير لنا، نحن أبناء هذا الجيل، أن قوة لبنان ليست في ثرواته المادية فقط، بل وفي رجاله الذين جعلوا من العلم صلاة، ومن الصلاة ثقافة، ومن الثقافة وطنا ورسالة”.
وختم:” فالعلم لا ينفصل عن الروح، والثقافة من دون إيمان تبقى ناقصة، والإيمان من دون ثقافة يبقى معرضا للنسيان. من الأباتي جبرايل القرداحي نتعلم أن خدمة الكلمة هي خدمة للإنسان وللوطن. إن ما قدمه هو عربون محبة عميقة لهذا التراث السرياني الذي هو جزء لا يتجزأ من هوية لبنان. تكريم الأباتي جبرايل القرداحي اليوم، هذا الراهب الماروني المريمي المميز، يذكرنا أنه تكريم لرجل عاش صامتا وبسيطا، لكنه ترك صدى عميقا ما زال يرافقنا بعد مرور أربعة وتسعين عاما على وفاته. واليوم، فيما نحتفل بذكراه، من هنا، من دير مار ضوميط فيطرون، نرفع الشكر لله الذي أعطى كنيستنا ورهبانيتنا ولبناننا هذا الراهب الجليل، ونصلي أن تبقى سيرته نورا لأجيالنا المقبلة، ودعوة إلى الثبات في الإيمان والالتزام بالثقافة والهوية. صلاتنا إلى الله أن يجعل تكريمنا له اليوم دعوة إلى أن نحيا مثله، أمناء لله، وللكنيسة، وللبنان الرسالة”.
ثم عرض فيلمان وثائقيان الاول عن حياة القرداحي، والثاني عن الراعي منذ سيامته الكهنوتية، ثم أزاح الراعي الستار عن النصب التذكاري للمكرم في باحة الدير الذي نحته الفنان سامر عطالله مع ابنه، وقدمت له الهدايا التذكارية، ثم زرعت شجرة أرز باسمه.
وكان رئيس بلدية فيطرون و الأهالي والفاعليات قد استقبلوا البطريرك الراعي عند مدخل البلدة بالزغاريد والهتافات، وساروا معه إلى باحة دير مار ضومط حيث اقيم الاحتفال.
