نور علي زريق – في زمنٍ تُستهلك فيه الحوارات بسرعة اللقطة وتُنسى قبل نهاية الجملة، يذهب محمد قيس بعكس التيار. لا يقدّم «عندي سؤال» بوصفه عنوان برنامج، بل كموقف تحريري، ومشروع إعلامي يقوم على تبنّي السؤال لا استهلاكه. يقف خلف المايكروفون بهدوء لا يشبه حياد الصمت، بل يشبه التمهّل الحذر لالتقاط ما قد يفلت من صخب التفاعل السريع.
لا يحاور قيس ضيفه كخصمٍ في مناظرة، ولا كمُعجب يُطري من دون مساءلة. بل كمحترفٍ يبني الجسور بذكاء، ثم يختبر تماسكها بالسير فوقها. يعرف متى يصمت ومتى يتكلم، متى يضيء على تفصيل ومتى يمرّ فوقه من دون ضجيج. اختياره للأسئلة ليس عشوائيًا، بل قائم على حسّ توقيتٍ داخلي، يُدرك فيه أن بعض الأسئلة تُفتح فقط حين تنضج اللحظة، وأن الإصغاء أحيانًا أهم من أي سؤال.
في بودكاسته، لا يسعى لجذب الجمهور عبر أسماء الضيوف، بل من خلال الحوارات العميقة التي تُبرز شخصياتهم الحقيقية اذ لا يكتفي بالحكاية كما رُويت، بل يبحث عمّا يُقال بين السطور ويبني الحوار كمن ينحت في الصخر بخفة اليد وبصبر الفكرة بحيث تراه يعود بعد دقائق إلى جملةٍ مرّت خلسة، يلتقط خيطًا تركه الضيف عن غير قصد ويحوّل اللحظة العابرة إلى لحظة كاشفة وعليه فإن أسئلته لا تُهاجم بل تُقارب ولا تُعرّي بل تُضيء من الداخل.
في كل حلقة، تتحول المقابلة إلى خريطة مشتركة لا يملك مفاتيحها الضيف وحده، بل يصاحب محمد الضيف في المسير، يمنحه مساحة للتعبير، ثم يدعوه للعودة إلى النقاط الغامضة التي تستحق الاستكشاف.
الصياغة الصوتية متقشفة لكنها دقيقة ، لا مؤثرات تتقدّم على المعنى ، لا تقطيع يشوّه السرد ولا تلميعٍ يجرّد اللحظة من صدقها. هنا يُبنى الجوهر على البساطة وتُترك العفوية في مكانها بدل أن تُصنّع.
«عندي سؤال» لا يسعى إلى الإبهار، بل إلى الكشف الهادئ. وميزة قيس أنه لا يخلط بين الإنصات السلبي والإصغاء الفعّال، يُدير الحوار بنَفَس طويل ويُمسك السياق بخيوط غير مرئية. وبما يخص لحظات الصمت التي يختارها فهي محسوبة بحيث تُربك الإجابة السهلة، وتفسح للمستمع أن يُعيد ترتيب أفكاره .
يختار ضيوفه بعينٍ مفتوحة على التنوع دون أن يفقد خطه التحريري لا نسخ مكررة ولا مواضيع مستهلكة. الحلقات التي أثارت جدلًا لم تفعل لأنها صادمة، بل لأنها أعادت ترتيب ما ظُنّ أنه معروف وجعلت من الحوار مساحة لاكتشاف طبقاتٍ دفينة فقد قدّمت الضيف كصوتٍ لا كاسم فقط.
في سياق متصل، استضاف محمد قيس على مدى مواسم «عندي سؤال» مجموعة من أبرز وجوه العالم العربي، من الفن إلى الإعلام إلى الشأن العام. حلقات لم تمرّ بصمت، بل تركت أثرًا تردّد صداه على المنصات، وكان آخرها حوار مع النجم بديع أبو شقرا، الذي أثار تفاعلًا واسعًا على مواقع التواصل لما حمله من صدق، ومواجهة هادئة بلا أقنعة
ختامًا محمد قيس لا يقدّم برنامجًا، بل يقدّم رؤية للحوار في زمن فقد فيه الحوار معناه. يعيد للسؤال وقاره، وللجواب حقّه في التمهّل، وللضيف كرامته. “عندي سؤال ” ليس حفلة استعراض، بل مختبر إنساني. وكل من يستمع، يدرك أن في هذا الصوت ما يشبه الضمير لا يصرخ ليُسمع بل يهمس ليُفهم .
