كتبت صحيفة “الجمهورية”: لم تحمل الزيارة الثالثة للموفد الأميركي توم برّاك إلى بيروت أيّ مفاجآت، خلافاً لتضخيم التقديرات التي سبقتها وروّجت بأنّ هذه الزيارة محطة مفصلية ما بعدها ليس كما قبلها. وخلاصة المشهد بعد الزيارات الثلاث، انّ لبنان لم يحصل على مراده بترجمة الثوابت والمسلّمات التي اكّد عليها بوقف العدوان الإسرائيلي، وضمانات واضحة بالتزام إسرائيل باتفاق وقف إطلاق النار والانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة والإفراج عن الأسرى اللبنانيين، والأهم عدم تكرار العدوان. ولا الأميركيون لمسوا التجاوب الذي يريدونه مع ما طلبوه من إجراءات من قبل الدولة اللبنانية لسحب سلاح “حزب الله”، سواء بصورة عاجلة أو وفق برنامج زمني. والأكثر وضوحاً في هذا السياق، كانت الرسالة الأميركية التي نقلها برّاك، وتفيد بوضوح بأنّ واشنطن ليست في وارد إعطاء أي ضمانات، وانّها لا تستطيع ان ترغم إسرائيل بالقيام بأي شيء. ومعنى ذلك أنّ الامور مفتوحة على كل الاحتمالات.
سجال ردود
منذ الزيارة الأولى لبرّاك إلى بيروت، لا يعدو المشهد أكثر من دوران في حلقة مقفلة، يدور بين زواياها ما يبدو انّه سجال ردود متبادلة، بقراءات مختلفة للواقع اللبناني وحساسيته ونظرات متباينة إلى الحلّ المنشود؛ في البداية حضر الموفد الأميركي وقدّم ما سُمّيت الورقة الأميركية للحل، وردّ لبنان عليها بجواب أكّد فيه على الالتزام بالقرار 1701 وباتفاق وقف إطلاق النار والسعي إلى حصرية السلاح، كما جرى التأكيد عليه في خطاب القَسَم لرئيس الجمهورية والبيان الوزاري للحكومة، وأولوية وقف العدوان الإسرائيلي والانسحاب من الأراضي المحتلة والإفراج عن الأسرى اللبنانيين. وجاء الردّ الأميركي على الجواب اللبناني بصيغة متشدّدة، وخصوصاً حول البند الأساس المتعلق بنزع سلاح “حزب الله” وفق خطوات تقوم بها الدولة وضمن برنامج زمني سقفه قبل نهاية السنة الحالية.
وبالأمس تسلّم برّاك ردّ لبنان الرّسمي الذي أكّدت مصادر رسمية لـ”الجمهورية” انّه لم يحد في مضمونه عن المسلّمات والثوابت. والآن وبعد تسليم الردّ اللبناني، تنتقل الامور تلقائياً للاستراحة لبعض الوقت على مقعد انتظار ما سيكون عليه الردّ الأميركي على الردّ اللبناني.
الدولة محشورة
وفي موازاة الإصرار الأميركي على سحب السلاح، تبدو الدولة اللبنانية بكل مستوياتها محشورة من جهة بقرارها الحازم بحصرية السلاح بيد الدولة، ومن جهة ثانية بثقل المطالبات الدولية لها بمقاربة أكثر الملفات سخونة وحساسية بإجراءات لسحب السلاح، من شأنها أن تربك الداخل اللبناني، ومن جهة ثالثة بقرار “حزب الله” عدم التخلّي عن سلاحه، الذي تواظب مستويات الحزب القيادية والسياسية والنيابية على التأكيد عليه بصورة يومية، مع تأكيد التشكيك بالموقف الأميركي ووصف الوعود الأميركية بالمساعدة لإيجاد حل، بالفارغة.
الردّ اللبناني، وكما يقول معنيون به لـ”الجمهورية”، “جاء بصورة عامة مستنسخاً عن الردّ السابق”. فيما كشفت مصادر اللجنة الثلاثية الممثلة للرؤساء الثلاثة جوزاف عون ونبيه بري ونواف سلام لـ”الجمهورية”، انّ الردّ ارتكز على قاعدة مفادها “أنّ الامن والاستقرار يتحققان بوقف العدوان الإسرائيلي والانسحاب من الأراضي المحتلة وتحرير الاسرى اللبنانيين. وانّ حصرية السلاح التزام مقطوع من قِبل الدولة اللبنانية، وثمة إجماع من مختلف المستويات السياسية على انّ تحقيق هذا الهدف يتمّ وفق الآلية التي ينتهجها رئيس الجمهورية بإطلاق حوار داخلي”.
وقالت: “الردّ الأميركي متشدّد بصورة عامة، وتقتضي المصلحة عدم الغوص في تفاصيله، إنما هو في جوهره يحاكي الجانب اللبناني فقط، ويعتبر سحب سلاح “حزب الله” ضرورة عاجلة لا تحتمل الإبطاء، فيما لا يلحظ في المقابل أيّ إجراءات من الجانب الإسرائيلي. وإزاء هذا التشدّد، كان الموقف اللبناني متشدّداً حيال ما يعتري الردّ الاميركي من ثغرات، حيث في نقاشاتنا للردّ الاميركي، تمّ وضع النقاط على حروف الاعتراضات والتحفظات الواردة فيه. وانتهينا إلى صياغة هي أقصى ما يمكن ان يقدّمه لبنان، تؤكّد على ما سبق والتزم وتعهّد به، حيث انّها تحاكي تثبيت الأمن والاستقرار في لبنان بصورة عامة، وفي منطقة جنوب الليطاني بصورة خاصة، لجهة تمسك لبنان بالقرار 1701 واستكمال مهمّة الجيش اللبناني بالتعاون والتنسيق الكاملين مع قوات “اليونيفيل”، وكذلك لجهة استمرار لبنان بالالتزام الكلي باتفاق وقف اطلاق النار، وضرورة دور الولايات المتحدة الأميركية الفاعل في ضمان إلزام اسرائيل بمندرجات هذا الاتفاق، بالانسحاب العاجل من الأراضي اللبنانية وتحرير الاسرى ووقف الاعتداءات والاغتيالات بصورة نهائية وعدم تكرارها”.
مقارباته هادئة
في موازاة ذلك، كشفت مصادر مواكبة لمحادثات الموفد الاميركي مع المسؤولين اللبنانيين لـ”الجمهورية”، أنّ برّاك أوحى بعد تسلّمه الردّ اللبناني بأنّ الردّ عليه لن يكون متاخّراً.
وسجّلت المصادر الملاحظات الآتية:
– خلال المحادثات كانت مقاربة برّاك للملف المطروح هادئة، بفارق انّه لم يغرق الردّ اللبناني بالإشادات المبالغ فيها، كما فعل حينما تسلّم ردّ لبنان على الورقة الأميركية في زيارته السابقة.
– كرّر الإشارة إلى ما سمّاها التحولات والتغيّرات التي تشهدها المنطقة، وانّ الفرصة متاحة أمام لبنان لكي يواكب هذه التغيّرات بخطوات تحفظ أمنه واستقراره وتساهم في نهوضه.
– ملف سلاح “حزب الله”، يشكّل الهدف الأساس، وإنّ الولايات المتحدة ترى أن تبادر الحكومة اللبنانية إلى إجراءات عاجلة لسحب السلاح.
– تحدث بالعموم عن وضع متوتر (خصوصاً في جنوب لبنان) من دون أن يشير إلى خرق إسرائيل لاتفاق وقف اطلاق النار ومسؤوليتها في إشاعة اجواء التوتر واستمرار اعتداءاتها على لبنان، وبالتالي لم يقدّم ايّ ضمانة تُلزم إسرائيل بوقف عدوانها.
خارطة طريق
وكان رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، قد استقبل برّاك في القصر الجمهوري في بعبدا قبل ظهر امس، في حضور السفيرة الأميركية في لبنان ليزا جونسون، وسلّمه باسم الدولة اللبنانية مشروع المذكرة الشاملة لتطبيق ما تعهّد به لبنان منذ إعلان اتفاق وقف اطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024، في خطاب القَسَم والبيان الوزاري للحكومة اللبنانية، حول الضرورة الملحّة لإنقاذ لبنان، عبر بسط سلطة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها بقواها الذاتية دون سواها، وحصر السلاح في قبضة القوى المسلحة اللبنانية وحدها، والتأكيد على مرجعية قرار الحرب والسلم لدى المؤسسات الدستورية اللبنانية. ويأتي ذلك بالتزامن والتوازي مع صون السيادة اللبنانية على حدودها الدولية كافة، وإعادة الإعمار وإطلاق عملية النهوض الاقتصادي، بضمانة ورعاية من قبل أشقاء لبنان وأصدقائه في العالم، بما يحفظ سلامة وأمن وكرامة كل لبنان وجميع اللبنانيين.
برّاك
ومن بعبدا انتقل برّاك إلى السراي الحكومي، حيث التقى رئيس الحكومة، وعقد على الأثر مؤتمراً صحافياً قال فيه: “يجب أن نؤكّد على ضرورة التركيز وإعادة الاستقرار الى لبنان والامل في المنطقة، وسنستمر على هذه الطريق”.
ورداً على سؤال حول ما ستقوم به الحكومة اللبنانية إزاء “حزب الله”، وما الذي طلب من الحكومة ومن إسرائيل حول تطبيق وقف اطلاق النار؟ قال: “المسألة انّ هناك اتفاقية لوقف الأعمال العدائية قد دخلت حيز التنفيذ لكنها لم تنجح، وهناك أسباب لعدم نجاحها، وهذا جزء مما نحاول جميعاً ان نحله”.
اضاف: “انّ اتفاقية نزع سلاح الحزب هي مسألة داخلية للغاية. تذكّروا انّ “حزب الله” بالنسبة لأميركا منظمة إرهابية أجنبية وليس لدينا اي علاقة بذلك. ونحن لا نبحث مع “حزب الله”، نحن نبحث مع حكومتكم كيفية المساعدة”.
واشار إلى أنّه “إن لم يحصل سحب السلاح، – بالنسبة إلى أميركا – لن تكون هناك عواقب، بل سيكون ذلك مخيّباً للآمال. نحن نحاول ان نساعد ونؤثر ونرشد ونجمع الأفرقاء للعودة إلى النموذج الذي تريدون أن ترونه جميعاً، اي الازدهار والسلام لأولادكم في المنطقة، ليست هناك عواقب. نحن هنا بشكل طوعي للمحاولة لمساعدتكم للوصول الى الحل”.
ورداً على سؤال قال: “لا اعرف الضمانات التي سئلتُ عنها، ولكننا لا نستطيع ان نرغم اسرائيل على القيام بأي شيء، اميركا ليست هنا لكي نرغم إسرائيل بالقيام بأي شيء، نحن هنا لنستعمل تأثيرنا ونفوذنا للوصول الى نهاية، وكما قلنا نحن هنا للمساعدة للوصول إلى نهاية، والمسألة تعود لكم اي للحكومة وللجميع عندما تكونون قد سئمتم من هذه المناكفات والمنافسات حيث يصل الجميع إلى خلاصة إلى ضرورة فهم اكبر وسلام مع الجيران لكي تكون الحياة افضل، لسنا هنا لنضع اي مصالح على الارض نحن لن نقوم بذلك”.
وحول صحة ما قيل عن تسلّمه ردوداً من الرئيس عون ومن الرئيس بري تتضمن ملاحظات لـ”حزب الله” أعلن: “لم ار اي ملاحظة من “حزب الله” على الاقل”.
وفيما لوحظ تقصّد برّاك في مؤتمره الصحافي التذكير بالتصنيف الأميركي لـ”حزب الله” بالمنظمة الإرهابية، قال مرجع كبير رداً على سؤال لـ”الجمهورية”: “ليس في الامر غرابة على الإطلاق، فهذه هي حقيقة موقف الولايات المتحدة الاميركية من “حزب الله”. واما لماذا أعاد برّاك التذكير بهذا التصنيف، فلا اعتقد أنّه يحاول ان يستفز “حزب الله”، بل هو يحاول أن يستدرك خطأ ارتكبه امام إدارته في زيارته السابقة، حينما وصف “حزب الله” بانّه حزب سياسي ذو جانب متشدّد. حيث أنّ اسرائيل امتعضت، وصدرت عقب ذلك سلسلة مواقف ومقالات من مؤيّدي اسرائيل في الولايات المتحدة، تعتبر ما قاله برّاك عن “حزب الله”، انحرافاً عن الموقف الأميركي الذي يصنّف الحزب منطمة ارهابية، وجميعنا نذكر كيف انّ الخارجية الأميركية سارعت إلى الردّ عليه بإعادة تأكيد موقف واشنطن بأنّ “حزب الله” في مجمله منظمة إرهابية”.
عون
وكان الرئيس عون قد اكّد امام زواره امس، “وجوب توحيد الجهود من قبل اللبنانيين والتصرف بموضوعية ومسؤولية لإبعاد لبنان عن الصراع من حولنا”.
وأشار إلى انّ “الدول نوّهت بالقرار المتخذ بحصر السلاح بيد الدولة”، وقال: “هدفي هو سلامة البلد وعدم المخاطرة باندلاع حرب، فلا قدرة لأحد على تحمّلها، وهناك فرص بدأت تلوح في الأفق بعد عودة الثقة بلبنان واستشراف آفاق الاستثمار فيه والقطاعات التي تجذب المستثمرين، ولا نرغب في تفويت هذه الفرصة”.
على صعيد سياسي آخر، ترأس رئيس مجلس النواب نبيه بري في مقر رئاسة المجلس في عين التينة أمس، اجتماعاً مشتركاً لهيئة مكتب مجلس النواب ولجنة الإدارة والعدل، حيث تمّ التباحث في التقرير الذي اعدّته اللجنة النيابية الثلاثية المؤلفة من النواب جورج عدوان ومروان حمادة والان عون، حول طلب وزارة العدل والنيابة العامة التمييزية رفع الحصانة عن وزير الصناعة السابق النائب جورج بوشكيان في قضايا فساد وارتكابات في الوزارة.
وتقرّر في الاجتماع عقد جلسة عامة للمجلس النيابي عند الحادية عشرة قبل ظهر غد الاربعاء للتصويت على طلب رفع الحصانة عن بوشكيان، وكذلك بت موضوع تشكيل لجنة تحقيق برلمانية في ملف وزارة الإتصالات في عهود الوزراء السابقين نقولا صحناوي، بطرس حرب وجمال الجراح.
وكانت قد تردّدت معلومات في موازاة انعقاد هذا الاجتماع، عن انّ النائب بوشكيان الحاصل على الجنسية الكندية، استبق قرار رفع الحصانة عنه، وغادر لبنان إلى كندا. الّا انّ المكتب الاعلامي لبوشكيان اعلن انّه “غادر الاراضي اللبنانية في 7 تموز 2025 في إطار سفر عائلي تمّ التخطيط له منذ أشهر، ولم يكن في حينه قد صدر بحقي أي قرار بالملاحقة أو حتى أي طلب رسمي برفع الحصانة”. كما اعلن “استعداده التام للتعاون مع أي مرجع مختص، في المكان والزمان المناسبين، التزامًا مني بالمؤسسات الدستورية، وتمسكًا بمبدأ الشفافية وخضوع الجميع للمساءلة ضمن الأصول القانونية”. واعرب عن امله في “انّ مجلس النواب سيُصدر قراره في هذه القضية برويّة وتجرّد، بعيدًا عن أي ضغط إعلامي أو توجيه شعبوي”. وقال: “لا أحد فوق المحاسبة، ولا أحد دون حماية، وفي أيّ حال لا تُبنى العدالة بالكيل بمكيالين”.
