نور علي زريق – في حلقةٍ من برنامج ” منّا وفينا “ على شاشة المشهد، جلست الإعلامية هبة حيدري في مواجهة أحد أكثر وجوه الإعلام اللبناني والعربي حضورًا وإثارةً للاهتمام ، رودولف هلال. لكنّ الحوار هذه المرّة لم يكن ” مواجهة ” من تلك التي اعتادها هو مع ضيوفه، بل مساحة بوحٍ نادرة انكشف فيها الجانب الشخصي والإنساني من المذيع الذي لطالما اختبأ خلف أسئلته الصريحة ونبرته الصلبة، بين الاعتراف والتردّد تحدّث رودولف عن الخسارة والهروب، وعن مهنةٍ صقلته كما استنزفته.
منذ اللحظة الأولى بدا رودولف مختلفًا تاركاً المسافة المعتادة بينه وبين الكاميرا لتقترب أكثر مظهراً ملامحه من دون طبقات الدفاع الإعلامية التي اعتاد إبرازها اذ حضر بصفاءه الداخلي ، نقيًّا إلى حدّ الإرباك يروي وجعه من فقدان والده بصدقٍ خالٍ من الزخرفة، لم يختبئ خلف اللغة بل استخدمها معترفاً أنه هرب من الوداع لأن المواجهة كانت أقسى من الاحتمال.
تحدّث عن الهروب لا كموقف عابر بل كخيارٍ يعيده إلى صمته كلّما ضاقت به المواجهة. هذه الصراحة المستديمة لم تكن اعترافًا فحسب بل كانت لحظة تجرّدٍ نادرة لمعت وسط المشهد الإعلامي الذي يفضّل عادةً الأقنعة على الوجوه.
ورغم أن رودولف ارتبط في ذاكرة المشاهدين بصورة الإعلامي الجريء الذي لا يتردّد في طرح الأسئلة الصارمة فإن ظهوره الأخير كشف ملامح مختلفة من حضوره، مزيج من الهدوء والحكمة التي تكسبها التجربة الطويلة. بدا في المقابلة أكثر ميلاً إلى التأمّل في رحلته لا إلى سردها ، بحيث اختار كلماته بثقة من يعرف الطريق . وحين تطرّق إلى أسلوبه المهني، أشار بهدوء إلى أنّ زمن ” الهارد توك ” بصيغته القديمة قد طوى صفحته، لا لأن الجرأة فقدت معناها بل لأن المهنة نفسها تغيّرت. فاليوم كما يقول يحتاج الحوار إلى مساحة توازن بين الصراحة والاحترام وبين السؤال الحادّ والإنصات العميق.
وعلى صعيد متصل ، أفصح عن علاقته المتوترة مع السوشال ميديا، وعن خوفه من أن تهدم ما بناه التلفزيون على مدى عقدين. اعترافٌ بدا منسجمًا مع ملامحه العامة بحيث انه يفضّل الإضاءة البطيئة على الوميض السريع اذ يؤمن بأن الحضور الحقيقي لا يُقاس بعدد المتابعين بل بعمق الأثر.
ومن جانب آخر، فإن رودولف الذي اعتاد أن يكون وجهًا مألوفًا على الشاشة، اختار في السنوات الأخيرة أن يمدّ حضوره إلى فضاءٍ آخر. فإلى جانب الإعلام خاض تجربة مهنية مختلفة عبر تأسيسه مشروع “بيروت هول ” الذي تحوّل بسرعة إلى واحد من أبرز الفضاءات الثقافية والترفيهية في العاصمة اللبنانية. نجح المشروع بفضل حسّه التنظيمي وخبرته في إدارة العلاقات، لكن الأهم أنّه حمل توقيع إعلاميٍّ يعرف كيف يقرأ الذوق العام ويترجم حاجات الناس إلى تفاصيل ملموسة. كان واضحًا أن اسمه بما يحمله من ثقة ومصداقية منح المشروع بُعدًا إضافيًا .
أما خلف الأضواء، فيطلّ أبٌ يحاول التوفيق بين الأبوة والمهنة، يروي كيف يصطحب ابنه إلى العمل ليُريه معنى الجهد وكيف يحاول أن يكون أقلّ غيابًا وأكثر حضورًا. في تلك التفاصيل البسيطة، بدا رودولف إنسانًا يراجع ذاته بصوتٍ عالٍ ويعيد ترتيب أولوياته بعيدًا عن صخب الاستديوهات .
في موازاة ذلك، أطلّ رودولف كإعلامي عربي مخضرم تجاوز حدود الشاشة اللبنانية، يحمل من الخبرة ما يكفي لأن يكون مدرسة في التواصل وإدارة الحوار. في حديثه عن عشرين عامًا أمام الكاميرا، بدا واثقًا ومتأملًا في آن، كمن يدرك أن الاستمرارية وحدها هي الامتحان الحقيقي للمحترف. لم يحتفِ بنفسه بقدر ما راجعها، ولم يرفع صوته بقدر ما أنصت إلى التجربة وهي تُعيد صياغته من الداخل.
وربما هنا تتضح معالم شخصيته الأعمق مزيج من الحزم والرهافة، من الثقة والقلق، من ذاك الحضور الواثق الذي يخفي خلفه إنسانًا متردّدًا أمام التفاصيل الصغيرة للحياة. لا يتهرّب من الضوء، لكنه لا يغرق فيه أيضًا. يعرف كيف يجعل الكاميرا شاهدة لا قاضية، وكيف يحوّل المقابلة إلى مساحة تفكير لا إلى معركة كلامية.


































