كتبت صحيفة “الجمهورية”: يبدو العالم في حالة جنون ضربته بنوع من انعدام التوازن في كلّ مفاصله؛ علاقات في منتهى التأزم بين الدول، وخصوصاً بين الدول الكبرى منها. في الولايات المتحدة الأميركية إغلاق حكومي وشلل وتظاهرات مليونية غير مسبوقة في العديد من الولايات، دعت إليها حركة “لا للملوك” ضدّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وفي فرنسا، سرقة مجوهرات لا تقدّر بثمن من متحف اللوفر في باريس، وفي منطقة الشرق الاوسط غليان خطير على أكثر من ساحة، وخصوصاً في إيران المحاطة بكل الاحتمالات الحربية، التي عززها إعلان طهران عدم التزامها بالقيود المرتبطة ببرنامجها النووي، وكذلك في سوريا، التي تعاني تخبّطاً داخلياً، وتهديداً لجغرافيتها من مصادر إقليمية ودولية متعدّدة. وأما لبنان، فغارقٌ في وحل أزمة مستعصية، تفاقمها انقسامات الداخل واصطفافاته، والعدوان الإسرائيلي المفتوح عليه بمخاطر مجهولة، وانكفاء الخارج عن مدّ يد حقيقية للمساعدة، واللبنانيون بكل فئاتهم وانتماءاتهم ضحايا أحقاد السياسيين ورهاناتهم، وتحليلات مأجوري التخويف والتهويل، غدهم مجهول ولا أحد منهم أو ممن هم في موقع القرار، يملك صورة عمّا هو آتٍ عليهم وعلى البلد.
تمرير وقت
كان الحدث أمس، في الفاتيكان الذي تجلّى بإعلان البابا لاوون الرابع عشر قداسة الطوباوي المطران اغناطيوس مالويان إلى جانب ستة طوباويين آخرين هم: بيتر تو روت، فينتشنزا ماريا بولوني، ماريا ديل مونتي كارميلو، رينديليس مارتينيز، ماريا ترونكاتي، خوشيه غريغوريو هيرنانديز سيسنيروس وبارتواو لونغو. وحضر الاحتفالية التي أقيمت لهذه الغاية في الكرسي الرسولي، رئيس الجمهورية العماد جوزاف والسيدة الاولى نعمت عون. وقد التقى رئيس الجمهورية الحبر الأعظم، واكّد له “أنّ لبنان بجميع أبنائه في انتظار زيارة قداسته نهاية الشهر المقبل إلى لبنان، بفارغ الصبر”، لافتاً إلى أنّ كل الترتيبات اتُخذت لنجاح الزيارة التي شكره على تلبيتها. وردّ البابا لاوون على الرئيس عون، مؤكّداً قيامه بهذه الزيارة التي يريدها زيارة “سلام ورجاء”.
والتقى الرئيس عون الرئيس الايطالي سيرجيو ماتاريلا في مكان الاحتفال، كذلك استقبل في مقر إقامته في روما البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي يرافقه النائب فريد هيكل الخازن. واستقبل ايضاً سفير لبنان لدى الكرسي الرسولي فادي عساف وأركان السفارة ، وسفيرة لبنان في روما كارلا جزار وأركان السفارة، واطلع منهم على أوضاع السفارتين والعلاقة مع أبناء الجالية اللبنانية الموجودين في إيطاليا.
عنوانان ومعركتان
سياسياً، عنوانان كبيران تتمحور حولهما مجريات الخريطة السياسيّة في هذه المرحلة، وكلاهما ملحّان يتسمان بصفة العجلة والضرورة. يتعلق الأول بالعدوان الإسرائيلي المتواصل على لبنان وكيفية إنهائه، وامّا الثاني فيتعلق بالانتخابات النيابية وكيفية وإمكانية إجرائها في موعدها المقرّر في ايار المقبل، في ظل الاشتباك المحتدم بين مكونات الانقسام الداخلي حول تصويت المغتربين.
واقعياً، العنوانان يتصدّران معركتين قاسيتين في المدى المنظور، لكل منهما ظروفها وأسلحتها السياسية والديبلوماسية، وعامل الوقت يضغط لإطلاق وشيك لصفارة انطلاق البلد نحو خوضهما، فيما الفترة الفاصلة عن النزول إلى ساحة المعركة، وكما توحي الأجواء السياسية، ضيّقة وليست مفتوحة لمديات طويلة، وأقصى ما يمكن القيام به خلالها هو مقاربة بعض الشكليات الداخلية، وتمرير الوقت حتى تحين لحظة الجدّ. وضمن هذه الشكليّات تندرج الجلسة العامة التي سيعقدها المجلس النيابي يوم غد الثلاثاء لانتخاب أعضاء هيئة مكتب المجلس (أمينا سر وثلاثة مفوضين)، وأعضاء اللجان النيابية الدائمة، حيث تؤشّر الأجواء النيابية من الآن إلى عدم حصول أي تطور نوعي على صعيد هذه الانتخابات، بحيث سيبقى القديم على قِدَمه دون أي تغيير، سواء في هيئة المكتب او في اللجان بأعضائها ورؤسائها ومقرريها.
ملف الجنوب أولاً
وعلى أهمية ملف الانتخابات النيابية، الّا انّ الفاصل الزمني عن إجرائها يمتد على 7 اشهر من الآن، ما يعطي للملف الجنوبي أفضلية المقاربة العاجلة على سائر الملفات والقضايا الاخرى. وعلى ما يقول مسؤول كبير لـ”الجمهورية”: “المحسوم في ما خصّ الانتخابات النيابية انّها ستجري في موعدها، وكلّ كلام عن تأجيلها والتمديد للمجلس الحالي، هو كلام بلا أي معنى، حيث لا موجب لتأجيلها على الإطلاق. اما في ما خصّ الاقتراحات التعديلية، فهناك حاجة لتعديل بعض التقنيات في متن القانون الانتخابي الحالي، اما في ما خصّ تصويت المغتربين لكلّ أعضاء المجلس النيابي، فالأمر محسوم. فقد جرّبنا هذا التصويت في الانتخابات السابقة لمرّة واحدة وأخيرة، ولا إمكانية على الإطلاق لتكرار هذا الأمر مرّة ثانية، مهما علا الصراخ والتجييش اللذين دأبت عليهما جهات سياسية تعتقد انّها بهذه الطريقة تستطيع ان تفرض مشيئتها على الآخرين”.
ووفق ما يُستخلص من الأجواء السياسية، والحراكات المكثفة على غير مستوى رئاسي وسياسي، فإنّ العدوان الإسرائيلي، وعلى ما يقول مصدر مطلع على خلفية الحراكات وخلفياتها لـ”الجمهورية”، “يتقدّم على كل الأولويات الاخرى في الداخل، وتركيز أصحاب الشأن في الدولة، منصبّ من جهة على بلورة موقف داخلي موحّد من هذه المسألة، ومن جهة ثانية على جذب الخارج الصديق والشقيق لدعم لبنان في بلورة السبيل الرامي إلى إنهاء العدوان وإلزام اسرائيل بوقف اعتداءاتها واغتيالاتها والانسحاب من الاراضي اللبنانية المحتلة والإفراج عن الأسرى اللبنانيين”.
وبحسب المصادر عينها، فإنّ الطرح الأخير لرئيس الجمهورية العماد جوزاف عون بعقد مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل برعاية أميركية وأممية لوقف عدوانها، آخذاً من مفاوضات ترسيم الحدود البحرية نموذجاً، يحظى بمقبولية لدى سائر الأطراف في الداخل، كذلك الامر بالنسبة إلى الخارج، حيث وردت إشارات واضحة داعمة لمبادرة رئيس الجمهورية، واكبتها اتصالات مباشرة وغير مباشرة تشجع على المضي في هذا المسار”، من دون أن تورد المصادر عينها اي تفاصيل إضافية حول هذا الامر.
لا للمفاوضات المباشرة
إلى ذلك، أكّد مصدر ديبلوماسي غربي لـ”الجمهورية”، انّ “طرح رئيس الجمهورية حول المفاوضات، هو طرح متقدّم، ويعبّر عن رغبة لبنان ببلوغ حل سياسي، ونحن نشجع هذا الأمر”، الاّ انّه عندما سُئل عن الموقف الأميركي من هذا الطرح قال: “انا اعكس موقفنا كواحدة من دول الاتحاد الاوروبي التي تجمعها بلبنان صداقة وعلاقة تاريخية، أمّا في ما خصّ موقف الإدارة الأميركية فلست على بينة منه، كما لست في الموقع الذي يجعلني أضع نفسي مكان الأميركيين. إلّا انني شخصياً، أميل إلى الاعتقاد بأنّ واشنطن قد تقارب طرح الرئيس اللبناني باهتمام. وكما تعلمون قنوات التواصل مفتوحة بالكامل بين واشنطن ولبنان، والكلام حول أي مبادرات او طروحات يُقال بينهما بصورة مباشرة”.
مخاوف من الضغوط
ألّا أنّ الصورة حول هذا الامر يقدّمها مصدر رفيع بصورة مغايرة ومختلفة تماماً، حيث يؤكّد لـ”الجمهورية”، انّ “مبادرة رئيس الجمهورية بطرح المفاوضات غير المباشرة، لم تأتِ اصلاً من فراغ، وهي بالتالي تشكّل أفضل الممكن بالنسبة إلى لبنان، ولكن العقدة التي تعترضها هي من قبل إسرائيل، فهي من الأساس تريد جرّ لبنان إلى مفاوضات مباشرة ليس على المستوى الأمني، بل بمستوى سياسي معيّن وصولاً إلى التطبيع، وهو ما يرفضه لبنان بصورة قاطعة”.
ورداً على سؤال عن دقّة ما يُشاع عن بدء مشاورات في الغرف المغلقة لتشكيل الوفد اللبناني المفاوض، بمشاركة عسكريين وديبلوماسيين وسياسيين ووزير او اكثر، قال: “المشاورات بين الرؤساء هو أمر يحصل في اي وقت، ولا غرابة في ذلك، وبالتالي امر طبيعي جداً أن يحصل هذا التشاور في مسألة تعني كل اللبنانيين، ووقف العدوان الإسرائيلي، وتمكين اللبنانيين من إعادة إعمار بيوتهم، ولكن هذا شيء وما يُنسج من روايات شيء آخر، فرئيس الجمهورية طرح مفاوضات غير مباشرة برعاية اميركية، ومن قال إنّ لبنان يريد الذهاب إلى مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، او مفاوضات بمشاركة سياسيين، هذا امر مستغرب، بل أقول انّه غير بريء وخلفيته خبيثة، القصد منها التشويش والتخريب على الموقف اللبناني”.
المنطقة العازلة
ورداً على سؤال حول الموضوع ذاته، قال مرجع سياسي لـ”الجمهورية”: “انّ الاميركيين يماشون بالتأكيد الموقف الإسرائيلي، ولا يعنيهم اي طرف آخر”.
ولاحظ المرجع رفع وتيرة الضغوط الإسرائيلية على لبنان في الآونة الأخيرة، أكان باستمرار الغارات والاغتيالات او الاستهدافات العدوانية للمنشآت المدنية، او بالمناورات العسكرية الواسعة التي بدأها الجيش الإسرائيلي أمس، بالقرب من الحدود مع لبنان”. وقال: “قد يبدو كل ذلك في اطار الضغط لسحب سلاح “حزب الله”، ومنع إعادة إعمار القرى والبلدات المهدّمة، ولكنه قد يبدو تمهيداً لما هو اخطر، حيث لا يُستبعد أن تكون في خلفية العمليات العدوانية الإسرائيلية، محاولة خلق ظروف في المنطقة الجنوبية تمكّنها من فرض ما تسمّيها المنطقة العازلة، وهذا معناه فتح الباب على مواجهة”.
يُشار في هذا السياق، إلى ما اوردته قناة “الحدث” عن “انّ لبنان تلقّى عرضاً بحصر سلاح “حزب الله” خلال زيارة الرئيس جوزاف عون إلى نيويورك”. مشيرة إلى انّ “الرئيس اللبناني نقل العرض إلى “حزب الله” عبر الرئيس نبيه بري”.
وأشارت إلى “انّ العرض الذي تلقّاه لبنان في نيويورك حول سلاح “حزب الله”، يُبحث على أعلى المستويات”، لافتةً إلى صيغ متعددة مطروحة مرتبطة بـ”سلاح “حزب الله”، والأخير منفتح على بحثها”. ورأت “انّ “حزب الله” سيطلب “ضمانة” عربية في المرحلة المقبلة لتسليم سلاحه، وهو مقتنع بأنّ “عقيدة القتال” من أجل فلسطين انتهت”.
وقالت: “انّ انتهاء حرب غزة سيزيد الضغط على لبنان والعراق وإيران للسير بالسلام”، مشيرة إلى انّ أذرع إيران أمام معادلة جديدة بعد 7 أكتوبر وهي “السلام مقابل عدم التدمير”.
مناورة واسعة
وكان الجيش الإسرائيلي قد اعلن عن إطلاق مناورة عسكرية واسعة النطاق، تبدأ اعتباراً من مساء الاحد وتستمر 5 أيام، على طول الحدود مع لبنان وفي التجمعات السكانية الإسرائيلية في المنطقة، وتحاكي “سيناريوهات مختلفة، تشمل الدفاع عن المنطقة والردّ على التهديدات المباشرة”. وقال الجيش الإسرائيلي: “خلال المناورة، سيُسمع دوي انفجارات، وتُستخدم محاكاة للعدو، ويُشعر بطائرات مُسيّرة وطائرات وسفن، بالإضافة إلى تحركات مكثفة لقوات الأمن، وقد تمّ تحديد موعد هذه المناورة العسكرية بصورة مسبقة، ضمن خطة التدريبات السنوية للجيش الإسرائيلي للعام الجاري 2025، وأنّه لا يوجد أي قلق من وقوع حادث أمني”.
يتزامن ذلك مع استمرار العمليات العدوانية في المناطق الحدودية، وتحليق مكثف للطيران التجسسي في الأجواء اللبنانية، وصولاً في فترة قبل ظهر أمس والمساء إلى أجواء الضاحية الجنوبية.
