كتبت صحيفة “الجمهورية”: بلغ الوضع الداخلي مرحلة متقدّمة من انعدام التوازن، تبدو وكأنّها ميؤوس منها، وذلك كنتيجة طبيعية للحالة المرضيّة المستعصية التي تعصف بالحياة السياسيّة، وحوّلت الداخل بكلّ تفاصيله وملفاته، سواء الثانويّة أو الأساسيّة، متاريس منصوبة في مواجهة بعضها البعض، تتسابق في تفخيخ البلد بكلّ عناصر التوتير والاشتباك.
المجريات الصدامية التي تتراكم على الحلبة السياسية، تؤكّد بما يرقى إليه الشكّ، أنّ هذه الحالة من انعدام التوازن، وربطاً بالفوارق العميقة بين المكوّنات السياسيّة وانعدام المشتركات في ما بينها، قد بلغت نقطة اللاّعودة، بل ومرشّحة للتفاعل والاستفحال أكثر، بما يشرّع الداخل على احتمالات وتعقيدات تشلّ البلد في كلّ مفاصله، وتدفع باستقراره الداخلي نحو منزلق خطير وإرباكات سياسية وحكومية وحتى طائفية وأمنية.
رهانات
ولعلّ أخطر ما في هذه الحالة، هو أنّ بعض مكوّنات الداخل، تبدو أنّها قد بنت حساباتها على رهانات وظروف ومتغيّرات خارجية أكثر منها داخلية، تفترض أنّ تلك الرهانات والظروف والمتغيّرات قد تؤدي إلى إحداث انقلاب سياسي يقلب الميزان الداخلي لمصلحتها وعلى حساب سائر الأطراف. وإذا كانت ظروف داخلية وخارجية قد حكمت بوضع ملف سحب سلاح «حزب الله» في المسار الموجود فيه حالياً، على نار هادئة وخارج دائرة الإشتباك، فإنّ التركيز منصبّ في هذه المرحلة على ساحة اشتباك موازية، والعين فيها على الملف الإنتخابي القابع فوق جمر الخلافات، ومحاولات بعض الأطراف تطويع القانون الانتخابي النافذ بتعديلات، كمثل تصويت المغتربين لكل أعضاء المجلس النيابي، تيسّر لهم تحقيق مكتسبات سياسية وغير سياسية لاستثمارها في مختلف الاستحقاقات الداخلية.
ما حصل بالأمس في مجلس النواب، بتطيير الجلسة العامة وتعطيل التشريع، ووفق الأجواء السائدة، ما هو الّا محطة اشتباكية أولى في مسار اشتباكي طويل ممتد من الآن وحتى موعد الانتخابات النيابية في ايار المقبل، وينثر في الأجواء علامات استفهام حول مصير هذه الإنتخابات، وما إذا كانت ستجري في موعدها، وايضاً ما إذا كانت هناك نوايا مبيّتة بتطيير هذا الاستحقاق من أساسه، وفرض التمديد للمجلس كأمر واقع؟.
لجنة وزارية
واللافت في هذا السياق، انّ الملف الانتخابي قاربه مجلس الوزراء في جلسته التي انعقدت أمس في القصر الجمهوري في بعبدا برئاسة رئيس الجمهورية جوزاف عون، تحت ضغط الحراكين المتصادمين، بين المتحمسين لتصويت المغتربين ممن يسمّون أنفسهم سياديين، وبين المتمسكين بإجراء الانتخابات وفق القانون النافذ من قبل ثنائي «حركة امل» و«حزب الله» وحلفائهما، ومن دون أن يصل مجلس الوزراء إلى قرار حاسم في هذا الشأن، لا حول المشروع التقني المقدّم من وزير الداخلية احمد الحجار، الذي يتضمن بعض التعديلات حول البطاقة الانتخابية و«الميغاسنتر»، ولا حول المشروع المقدّم من «القوات اللبنانية» عبر وزيرها في الحكومة جو رجي. بل قرّر تفعيل اللجنة الوزارية التي سبق وشكّلها في حزيران الماضي، للبحث في ما هو مطروح من تعديلات على القانون الانتخابي، وأضاف اليها نائب رئيس الحكومة طارق متري لرئاستها، وأعطاها مهلة اسبوع لتعدّ تقريرها في هذا المجال.
وقالت مصادر وزارية لـ«الجمهورية»، إنّ النقاش في مجلس الوزراء كان محتدماً جداً في هذا الملف، وكان التباين عميقاً جداً بين وزراء «القوات» و«الكتائب» الذين اصرّوا على إقرار المشروع في جلسة الأمس، وبين وزراء الثنائي الذين أصرّوا على القانون النافذ، وعلى انتفاء مبدأ تكافؤ الفرص في ما خصّ المغتربين. وسُجّلت سجالات في اكثر من محطة، حيث هدّد وزراء «القوات» بالانسحاب من القاعة، كما لوحظ تعصيب «وزير الكتائب نصار، الذي احتد في الجلسة الى حدّ الصراخ بصوتٍ عالٍ».
وأضافت المصادر: «ما حصل بالأمس يعني ترحيل المشكلة او الاشتباك، حيث الأجواء لا تبدو مشجعة. وفي مطلق الأحوال ننتظر ما ستنتهي اليه اللجنة الوزارية. ومما لا شك فيه أنّ مهمّة اللجنة حساسة جداً، في ظل التباينات الجوهرية في مواقف القوى، وبناءً على تقرير اللجنة الوزارية سيتمّ اتخاذ القرار المناسب في مجلس الوزراء. ونأمل أن يتمّ ذلك بتوافق كلّ الاطراف، والحكومة تقارب هذا الملف بمسؤولية عالية».
وحول ما يُقال عن الحاجة بالدرجة الاولى إلى توافق وطني حيال الأمور الأساسية وفي مقدّمها قانون الانتخابات، قالت المصادر: «التوافق الوطني هو المطلوب، لكن في نهاية المطاف الكلمة الفصل في أي تقارير او تعديلات او مشاريع قوانين تعود إلى مجلس النواب».
غياب التوافق
وفي السياق ذاته، أكّدت مصادر الثنائي لـ«الجمهورية»، انّ هناك قانوناً انتخابياً نافذاً، يحتاج إلى بعض التعديلات التقنية، ولا يحتاج في الوقت نفسه لتعديلات جوهريّة، كمثل المطروح بالنسبة إلى تصويت المغتربين لكلّ أعضاء المجلس النيابي. فهذا التعديل سياسي بامتياز، معلومة خلفياته وأبعاده وأهدافه، ولا صلة له من قريب او بعيد بالشعار الذي يتغطون به ويتباكون فيه على حق المغتربين في تقرير مصير بلدهم.
وجزمت المصادر باستحالة مرور ايّ مشروع او اقتراح ينعدم فيه تكافؤ الفرص، ويُراد منه فقط غلبة فريق على فريق، وقالت: «قبل الحديث عن تعديلات في هذا السياق، ينبغي أولاً تحديد الأسباب الحقيقية الموجبة، لهذه التعديلات، وليس التذرّع بالشعار الفارغ وتكرار اسطوانة حقّ المغتربين بالتصويت. فأين كان هذا الشعار عندما تمّ إقرار القانون الذي نصّ على مرّة واحدة لتصويت المغتربين لكل المجلس، وحصر انتخابهم بالنواب الستة على مستوى القارات؟».
وإذ ذكّرت المصادر بما سبق وأكّد عليه رئيس مجلس النواب نبيه بري، بأنّ حق المنتشرين بالمشاركة في الانتخابات النيابية محفوظ، ومن أراد منهم المشاركة في الانتخابات، فليحضر إلى لبنان ويمارس حقه في اختيار من يريده لتمثيله، قالت: «في الخلاصة، هناك قانون انتخابي نافذ يوجب إجراء الانتخابات على أساسه، وليس الركون لمزاجيات البعض الذين يريديون تفصيل القانون الانتخابي على مقاسهم. وبمعنى أدق، يذكّرنا هؤلاء بتجاوزهم للقانون الانتخابي النافذ، رغم انّهم اصلاً كانوا اكثر المتحمسين لإقراره بصيغته الحالية (تصويت المغتربين لكل المجلس لمرّة واحدة، وحصر انتخاباتهم في الانتخابات المقبلة بالنواب الستة على مستوى القارات) بأهل الجاهلية الذين صنعوا إلهاً من تمر، ولما جاعوا أكلوه، خلاصة الأمر، القانون الانتخابي النافذ قائم ولا يؤكل».
وكان مجلس الوزراء الذي أقرّ سلسلة تعيينات في جلسة الأمس، قد اتخذ قرارًا في ما خصّ اللجنة الوزارية حول القانون الانتخابي، جاء فيه «بما انّه جرى تكليف اللجنة في 8/7/2025، وفي ضوء قرار مجلس الوزراء الذي شكّل اللجنة، وفي ضوء مشروعي القانونين من وزارة الداخلية ووزارة الخارجية، طلب مجلس الوزراء من اللجنة المذكورة المشكّلة بموجوب قرار مجلس الوزراء رقم 59 تاريخ 16/6/2025، إعداد الاقتراحات والتعديلات على قانون الانتخاب العائد إلى المجلس النيابي، على أن يرأس اللجنة نائب رئيس مجلس الوزراء، وأن ترفع تقريرها في مهلة أقصاها أسبوع من تاريخه».
وفي كلمة له في مستهل الجلسة، تناول الرئيس عون مسألة عدم تأمين النصاب في جلسة مجلس النواب، معتبراً «أنّ الأمر برغم أنّه عمل ديموقراطي، لكن مصلحة البلد هي فوق كل اعتبار وتقتضي تفعيل عمل مؤسسات الدولة، ولا يجب على أحد أن يقاطع، فضلاً عن أنّ الأمر لا يعطي صورة حسنة عن لبنان».
فيما اشار الرئيس سلام في كلمته، إلى الجريمة الأليمة التي أدّت إلى مقتل الشاب ايليو أبي حنا، معتبراً أنّ «السلاح الذي لا يزال بيد بعض الفصائل والمجموعات المسلحة داخل المخيمات الفلسطينية يشكّل خطراً على الاستقرار في لبنان وأمن أهله»، مشدّداً على «وجوب استكمال عملية تسليم سلاح هذه المخيمات». كما اكّد «الالتزام بمسار حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية ومؤسساتها الشرعية حصراً، وبسط سلطتها على كامل أراضيها».
نافذة أمل
في الجانب السياسي الآخر، تحدثت مصادر سياسية واسعة الإطلاع لـ«الجمهورية»، عن «احتمالات جدّية لأن تشهد المرحلة المقبلة تزخيماً للمسار السياسي لإنهاء العدوان الإسرائيلي وتفعيل اتفاق وقف الأعمال الحربية المعلن في تشرين الثاني من العام الماضي، على أكثر من خط خارجي في اتجاه لبنان، ملمّحة في هذا السياق إلى ما حمله رئيس المخابرات العامة في مصر اللواء حسن رشاد، من افكار وطروحات يُبنى عليها، وتعكس توجّهاً دولياً تتصدّره مصر بالدرجة الاولى، لترسيخ الأمن والاستقرار على جبهة لبنان. وإلى الأجواء التي سادت اللقاءات التي أجرتها نائبة الموفد الأميركي إلى المنطقة مورغان أورتاغوس، والتي تخالف المناخات الحربية التي جرت ضخّها في الأجواء اللبنانية في الايام القليلة الماضية، وسوّقت لها منصات وقنوات داخلية وخارجية».
ووفق معلومات مشاركين بالاتصالات لـ«الجمهورية»، قولهم «فإنّ ما نقله الموفدون يؤشّر إلى نافذة أمل مفتوحة في أفق الأزمة، يجري العمل حالياً على توسيعها، وتلعب مصر دوراً رئيسياً فيها. وقد اكّدنا في موازاة ذلك على أنّ لا مشكلة في لبنان حيال أي جهد او مسعى يُبذل لوقف العدوان الإسرائيلي، بل هناك مصدر وحيد للمشكلة التي تضرب عرض الحائط باتفاق وقف النار والقرار 1701، ولبنان ملتزم بالاتفاق وبالقرار 1701، ولا يبقى سوى ممارسة ضغط جدّي على إسرائيل لوقف عدوانها وإلزامها بالاتفاق. وقناعتنا انّه لن يتحقق شيء في هذا الإطار ما لم تقم الولايات المتحدة الأميركية بالضغط على إسرائيل، على غرار ما فعلته في اتفاق غزة».
وسألت «الجمهورية» مرجعاً سياسياً حول ما استجد على خط الموفدين فقال: «حتى الآن ما زالت الامور في بداياتها، ولا نستطيع التكهن بما قد يحصل، ولكن وفقاً لما سمعناه، فإنّ الأجواء لا تبعث على القلق».
ورداً على سؤال عن المحادثات مع اورتاغوس، وما تردّد عن طلبها المفاوضات المباشرة بين لبنان وإسرائيل، وكذلك طلبها اتخاذ الحكومة إجراءات لمنع إعادة «حزب الله» لبناء قدراته، قال المرجع: «حزب الله» ومنذ اعلان اتفاق وقف اطلاق النار لم يطلق ولو رصاصة واحدة تجاه اسرائيل برغم كثافة اعتداءاتها واغتيالاتها، وما هو مطلوب من لبنان يقوم بتنفيذه، خصوصاً في منطقة جنوب الليطاني، وكلّ العالم يثني على أداء الجيش ومهمّته التي ينفّذها بمسؤولية عالية، بالتنسيق الكامل مع قوات «اليونيفيل»، وكل العالم أكان الامم المتحدة او «اليونيفيل» او لجنة «الميكانيزم»، على دراية تامة بأنّ اسرائيل هي التي تعوق مهمّة الجيش وليس اي طرف آخر».
أضاف: «اما في ما خصّ المفاوضات المباشرة، فموقفنا معروف برفضها شكلاً ومضموناً، حيث هناك إطار موجود لمناقشة كل الامور، في لجنة «الميكانيزم» التي تضمّ ضباطاً اميركيين، وضباطاً فرنسيين، وقيادة «اليونيفيل»، وثلاثة ضباط لبنانيين وثلاثة ضباط إسرائيليين، يعني لجنة خماسية تشكّل المكان المناسب لإثارة كل الامور ومعالجتها، وبالتالي لا توجد حاجة لأي اطار آخر».
اجتماع «الميكانيزم»
وكانت لجنة «الميكانيزم» قد اجتمعت في مقر «اليونيفيل» في الناقورة أمس. وبحسب بيان للسفارة الأميركية فـ«إنّ جميع الأعضاء اكّدوا التزامهم المشترك بدعم الاستقرار في لبنان، واتفقوا على تنظيم الاجتماعات بشكل أكثر منهجية، وانّ الاجتماعات من الثالث إلى السادس عشر للّجنة ستُعقد قبل نهاية العام». وقال رئيس اللجنة الجنرال جوزف كليرفيلد: «إنّ إضفاء الطابع الرسمي على جدول الاجتماعات يضمن توافق جميع المشاركين، إطلاعهم الكامل، واستعدادهم لتقديم تحديثات شفافة إلى المجتمع الدولي. إنّ هذا النهج يعزّز الكفاءة العملانية ويبني الثقة المشتركة الضرورية لتحقيق السلام الدائم في لبنان». وأضاف: «إنّ احترافية الجيش اللبناني والتزامه جديران بالملاحظة. لقد شاهدته ينفّذ مجموعة واسعة من العمليات، بدءًا من توفير الحماية لعمليات حصاد الزيتون وصولًا إلى تنفيذ عمليات معقّدة لتحديد موقع منشأة تحت الأرض، تفكيكها، وتحييدها، والتي يُعتقد أنّها كانت تُستخدم من قِبل جهات خبيثة. يعكس أداؤه هذا قوة الجيش اللبناني وعزيمته الراسخة لتأمين مستقبل وطنه».
واشار البيان إلى «انّ الجيش اللبناني قدّم خلال الاجتماع تحديثاً عملانياً مفصّلًا، مسلّطًا الضوء على عملية حديثة لتطهير منشأة تحت الأرض بالقرب من وادي العزية، حيث أسفرت العملية عن استطلاع شامل للمنطقة، مع التخطيط لإعادة زيارتها لاحقًا. وأشاد الجنرال كليرفيلد باحترافية الجيش اللبناني وانضباطه».
وقال البيان، «إنّ اللجنة بحثت أيضًا فرص التخفيف المستمر من انتهاكات ترتيبات وقف الأعمال العدائية. واتفق المشاركون على أن تظل هذه المسألة بندًا ثابتًا على جدول أعمال جميع الجلسات المستقبلية، باعتبارها جزءًا من الجهد الجماعي للحفاظ على السلام وتعزيز المساءلة في إطار ترتيبات وقف الأعمال العدائية». وقالت اورتاغوس: «إننا نواصل متابعة التطورات في لبنان، ونرحّب بقرار الحكومة وضع جميع الأسلحة تحت سيطرة الدولة بحلول نهاية العام». وأضافت: «يتعيّن على الجيش اللبناني الآن تنفيذ خطته بشكل كامل».






































