Les actualités les plus importantes et les plus récentes du monde en français

راشيل كرم وحسن هاشم …. حوار يصنع أثراً وسط الضجيج

Screenshot

نور علي زريق – ليس كلّ حوارٍ يمرّ في الفضاء الإعلامي يُكتب له البقاء كثيره يذوب مع الضجيج وقليله فقط يتحوّل إلى محطة تترك أثراً لأنها تعيد الكلمة إلى معناها الأصيل ، فعل تفكير لا مجرّد أداء .  من هذا القليل جاء اللقاء الذي جمع الصحافية راشيل كرم بصانع المحتوى حسن هاشم عبر قناتها على يوتيوب حلقة حملت ثِقَل الأسئلة بقدر ما حمَلت جرأة الإجابات، فبدت أشبه بامتحان حيّ للعقل حين يوضع تحت الضوء.

منذ البداية، قادت راشيل كرم الحوار بخطّ مدروس لم تفتتح من سؤال اعتيادي بل وضعت الضيف أمام ملف هيكل سليمان، بتركيبته الدينية والسياسية الشائكة، ثم راحت تُنزّل النقاش على الواقع اللبناني من الطائفية كجرح لم يلتئم، إلى الانهيار الاقتصادي والسياسي الذي جعل من البلد ساحة مكشوفة لتصفية الحسابات ، ولأنها تعرف أن لبنان لا يمكن فصله عن محيطه وسّعت الدائرة لتضع فلسطين بعد السابع من تشرين في صلب النقاش كحدث يختبر وعي المنطقة بأسرها. في كل انتقال بدت كرم دقيقة في اختيار اللحظة كأنها تبني سلّماً يحوّل الأسئلة إلى مسار مترابط لا مجال فيه للانفلات.

أمام هذا النسق، قدّم حسن هاشم نفسه بوجهٍ مختلف عن ذاك الذي اعتاده الجمهور في برنامجه ” غموض ” . فإذا كان يعتمد هناك الفصحى كلغة وهوية فقد اختار في هذا اللقاء أن يتحدث بلهجته اللبنانية ما أضاف قرباً ومرونة من دون أن ينقص من جدّيته ، وما يميّزه أنّه ليس مجرّد مقدّم محتوى بل شخصية تمتلك معرفة واسعة وثقافة عامة متماسكة وفكر نقدي قادر على قراءة الأحداث من منظورات متعددة،  فقد ظلّ محافظاً على نبرته الناضجة، فصيح حين يريد الإقناع وبسيط حين يشرح الفكرة، متشبّثاً بعمق محتواه ومعرفته بعيداً عن أي استعراض أو شكلية ليؤكد أنّ المنصّة الرقمية يمكن أن تكون مساحة للمعرفة والفكر لا مجرد وسيلة للعرض

في إجاباته لم يقدّم هاشم نفسه كمجرّد “يوتيوبر” بل كصاحب مشروع يتخطّى حدود المنصّة الرقمية ، طرح أسئلة مغيّبة عن التاريخ الغامض وعن الأساطير الدينية وعن الجغرافيا السياسية وأبقى فلسطين في قلب النقاش باعتبارها القضية المركزية. وحين وصل الحديث إلى لبنان لم يقف عند حدود الشكوى، بل كشف عن رؤيته لبلد مأزوم يعيش انهياراً شاملاً ويُستَخدم كأداة صراع. ومن هناك وبفعل دفع أسئلة راشيل ذهب أبعد بحيث شدّد على ضرورة أن تنشأ في لبنان ثقافة جدّية لصنّاع المحتوى تُعطي وزناً للفكرة والمعرفة وتحوّل اليوتيوبر إلى مؤثر حقيقي لا مجرد ظاهرة عابرة. وهو ما يستدعي برأيه دوراً للمؤسسات الرسمية في تنظيم هذا القطاع ورعايته .

هكذا بدا اللقاء أكثر من حوار عابر كان تمريناً عملياً على التلاقي بين صحافة تعرف قيمة السؤال ومؤثر يملك مشروعاً أبعد من الشهرة . راشيل كرم أظهرت أنّ الصحافي حين يُحسن اختيار اللحظة يصبح صانع مسار، وحسن هاشم أثبت أنّ المنصّة الرقمية قادرة أن تنتج معرفة متى تجرّدت من وهم الاستهلاك.

ولعلّ ما يميّز راشيل كرم أنّها ليست مجرّد صحافية عابرة في مشهد إعلامي يزدحم بالوجوه، بل صوت نسج لنفسه مساراً خاصاً. صنعت هويتها من خلال مزيج نادر بين جرأة الطرح ورصانة التناول، وبين الحضور الشخصي والمهنية الصارمة إضافة إلى مخزون واسع من المعرفة والاطلاع الذي يغني حواراتها ويمنحها عمقاً لا يخفى. فهي لا تنجرّ وراء الاستعراض، بل تبحث عن المعنى الكامن وراء كل سؤال، لتجعل من الحوار مساحة اختبار لا مساحة استهلاك. بهذه السمات تحوّلت إلى واحدة من الأسماء التي يصعب أن تمر مروراً عابراً لأنّها أثبتت أنّ الصحافة ليست مهنة إلقاء الأسئلة فحسب بل فنّ بناء السياق وكشف المخفي. وجاءت هذه الحلقة مع حسن هاشم لتؤكّد مرة أخرى هذا الخط،  حوار مضبوط الإيقاع يذكّر بأنّ الصحافي حين يكون مدركاً لأدواته، يصبح صانع مسار لا ناقلاً عابراً.

الأهم أنّ هذه الحلقة لم تكن مجرد مواجهة بين شخصين، بل علامة على إمكان ولادة صيغة جديدة للإعلام العربي. فما عجز عنه الإعلام التقليدي بمفرده، وما لم تستطع المنصّات الرقمية أن تنجزه وحدها، يمكن أن يولد من هذا التزاوج بين الخبرة والحرية، بين دقّة السؤال ورحابة الطرح. لقد ذكّرت الحلقة بأنّ الإعلام ليس مرآة تعكس اللحظة فحسب، بل ذاكرة تحفظ ما تحاول السلطة طمسه. وفي زمنٍ يغلب فيه التسطيح بدا الحوار إعلاناً غير مباشر بأنّ العقل لم يُقصَ بعد عن الساحة وأنّ الكلمة متى صيغت بوعيٍ صادق، تبقى قادرة على مقاومة الضجيج وأن تكتب حضورها في سجلّ الذاكرة لا في دفتر اللحظة.